يسود اعتقاد لدى العامة أن معظم ودائع المصارف تاهت بين مصرف لبنان ومزاريب الدولة وموازناتها، فيما الحقيقة أن 40 مليار دولار منها كانت مُقرضة للقطاع الخاص، وفي ذمة مقترضين حصلوا عليها بمثابة قروض سكنية أو شخصية أو تجارية أو غيرها.
بعد سقوط الليرة، وتعنّت الدولة بإبقاء سعر صرف الدولار على 1507 ليرات، بادر معظم المقترضين إلى تصفية قروضهم بـ”تراب المصاري” كما يُقال، وحالف الحظ بعضهم بأن سدد ببضعة آلاف من الدولارات ثمن شقة سكنية، أو قرض تجاري يقدَّر بمئات الآلاف.
هذه الثغرة المالية، التي تأخرت الدولة في معالجتها، وإنْ أفاد منها عشرات الألوف من المقترضين، إلا أنها في المقابل أذابت نحو 30 مليار دولار من ودائع الناس ورؤوس أموال المصارف.
“سبق السيف العذل”، وما عاد وفق إجماع القانونيين والمصرفيين، بإمكان الدولة والمصارف إستعادة هذه الودائع، التي ضاعت بسبب تقاعس الدولة عن إقرار القوانين اللازمة في الوقت المناسب، لتحمي ما يقرب من ثلث ودائع المصارف، وهي خطوة لو حصلت في اللحظة المؤاتية، لكان وضع المصارف حاليا أفضل بكثير مما هو عليه الآن، ولكان في مقدور القطاع المصرفي بمفرده إستعادة المبادرة واستئناف نشاطه ووظيفته ودوره في إنعاش الاقتصاد.
الخسارة وقعت على المصرف والمودع معا، والمستفيدون اثنان: مقترض صغير لا يتعدى قيمة ما استلفه من البنك ثمن شقة أو سيارة، أو أي قرض شخصي آخر، بضعة أو عشرات آلاف الدولارات فقط، وثاني المقترضين هم أصحاب الأعمال والمشاريع الإستثمارية الكبرى والمنتجة.
مبنى في بيروت، إقترض مالكوه ما يفوق العشرة ملايين دولار لإنشائه قبل الأزمة، وعادوا وسددوا ما عليهم من قروض وتسليفات للمصارف بعدها، على سعر 1507 ليرات للدولار الواحد، أي بما يقل عن نصف مليون دولار، في وقت كان سعر صرف الدولار الفعلي على عتبة السبعين ألف ليرة. المبنى اليوم “شغّال”، جميع الشقق فيه والمكاتب مؤجرة، والمحال التجارية والمطاعم مزدهرة، وحتى الموقف السفلي للسيارات مكتظ، والعائدات الشهرية بمئات آلاف الدولارات “الفريش”، فأين العدالة؟
المساواة في القانون عدالة، لكن ألا يمكن لهذه العدالة صناعة تسوية مع القانون، تعيد بموجبها بعضا من الودائع، من خلال فرض ضريبة أو رسم لمرة واحدة فقط على أصحاب القروض التجارية والإستثمارية الضخمة المسددة على 1507 ليرات، تُدفع من مردود تلك الإستثمارات والمشاريع التي أُنجِزت ولا تزال تعمل وتحقق مردودا كبيرا لأصحابها؟
هذه الخطوة في ما لو قُدّرت لها الحياة، لأمكن لها أن تكون أحد أبواب إعادة جزء من الودائع لأصحابها، حيث يقدر البعض أن عائدات هذه الضريبة – الرسم، قد تصل إلى ملياري دولار تقريبا، بما يسمح بإعادة رسملة المصارف وبناء قاعدة سيولة فيها تعزز قدرتها على استئناف التسليف من جديد، وإطلاق الدورة النقدية في الاقتصاد.
بَيد أن ترجمة هذا الاقتراح الى قانون دونها معوقات ليس أقلها ان الكثير من المسؤولين والمعنيين بدراسة المشروع واقراره هم ممن استفادوا من فروقات التسديد، كذلك لا يخفى الدور الاعتراضي الضاغط لرجال أعمال ومال على السلطة لعرقلة السير بهذا المشروع ووضعه في خدمة المودعين والمالية العامة. فهل مَن يجرؤ؟
#القطاع الخاص يتجنب التعليق على هذا الاقتراح قبل الاطلاع على تفاصيله من المعنيين، ويؤكد رئيس الهيئات الاقتصادية محمد شقير لـ”النهار” ان اجتماعا سيُعقد قريبا مع حاكم مصرف لبنان بالانابة وسيم منصوري للبحث في مدى انعكاس هذا الاقتراح على القطاعات كافة ليبنى على الشيء مقتضاه.
مصادر اقتصادية تؤكد ان اقتراح فرض ضريبة على الارباح الناتجة عن القروض لا يشمل القروض السكنية او الاستهلاكية، بل يشمل المستثمرين الذين اقترضوا ملايين الدولارات واستثمروها في مشاريع لا تزال قائمة وتدرّ على اصحابها ارباحا كبيرة، فيما هم سددوا قروضهم بأقل من 10% من قيمتها. وتشير الى أن الضريبة ستُفرض على ارباح تلك الإستثمارات وليس على أساس رأس المال الذي اقترضه المستثمر، على أن تراوح الضريبة ما بين 15% و17% ولمرة واحدة فقط.
واكدت المصادر أن مبالغ الضريبة المحصّلة يمكن ان توضع في صندوق إعادة أموال المودعين، وتاليا يمكن للمصارف إعطاؤها لأصحاب الحقوق “بالفريش” دولار.
ولا تنكر المصادر ان هذا الطرح يحتاج إلى دراسة معمقة، بحيث لا يمكن فرض الضرائب بشكل عشوائي، بل يجب أن تُحصر بمن افادوا من هذه الأموال بمبالغ طائلة، ويستثني منها كل من أخذ قرضا للسكن، أو للإفادة الشخصية، وقرضا للصحة وللطبابة والتعليم، كما يستثنى منها محدودو الدخل.
ماذا عن الذين أخرجوا أموالهم من لبنان، كيف ستطاولهم الضريبة؟ توضح المصادر أنه يمكن للحكومة تفعيل التعاون الضريبي مع الدول، علما ان لبنان وقّع كل الإتفاقات المرتبطة بهذا الشأن، وتاليا يمكن فرض الضريبة على كل من أفاد من القروض وحوّلها الى خارج الأراضي اللبنانية.
وتتحدث المصادر عن استثناء اصحاب القروض الذين سددوها من حساباتهم المصرفية بالقيمة نفسها، مع الاخذ في الاعتبار أن بعض الاشخاص سددوا قروضهم عندما كان الدولار بـ 60% من قيمته وآخرون 40% أو 10%، وتاليا يجب أن تُدرس كل حالة من هذه الحالات، وقيمة الضريبة التي ستُدفع.
طروحات عدة كفرض ضريبة على الأرباح الناتجة عن القروض تطاول اصحاب المشاريع الكبيرة من تجار وسواهم من كبار المقترضين بالدولار. وقد سددت القروض بعد الازمة على سعر الليرة او “لولار”، وهي مقدرة بأكثر من 30 مليار دولار، على ان تكون الضريبة بنسبة مئوية محددة.
وفقا لتقارير مصرفية، فإنه عندما بدأت الازمة كانت قيمة القروض تناهز الـ 39 مليار دولار، أما اليوم فهي لا تتعدى الـ9 مليارات دولار، ما يعني ان ما تم تسديده من قروض خلال الازمة هو بقيمة 30 مليار دولار (15% فقط من قيمة القروض الحقيقية)، وقد جرى ذلك على سعر الصرف الرسمي لليرة 1500 ليرة او “لولار”.
ويبدو ان طرح فرض ضريبة على الأرباح المالية جاء على خلفية ما أورده صندوق النقد الدولي في بيانه الاخير بأن ثمة “أرباحا” جناها المقترضون تُقدر بحدود 15 مليار دولار.
فما هي الآلية لفرض هذه الضريبة؟ توضح المحامية الدكتورة جوديت التيني أنه وفقا لنص المادة 81 من الدستور “لا تُفرض الضرائب العمومية في الجمهورية اللبنانية إلا بموجب قانون شامل تطبّق احكامه على جميع الأراضي اللبنانية”. وتضيف ان “فرض الضرائب هو من المواضيع المحفوظة لمجلس النواب la reserve de la loi ومن الاختصاص الحصري العائد له. إذاً الضريبة المراد فرضها اليوم بحاجة لتكريسها في قانون”.
ويعتمد لبنان النظام الضريبي النوعي الذي يفرض الضريبة بحسب مادة التكليف وليس نظام الضريبة الموحدة التي تُفرض على مجموع الدخل. وفي نظام الضريبة النوعية، تُفرض ضريبة مستقلة ومتميزة على كل فرع من فروع الدخل، مثل الضريبة على إيرادات القيم المنقولة، والضريبة على ارباح المهن التجارية والصناعية والمهن الحرة، ولكل نوع من هذه الضرائب نظامه المستقل من أصول وإجراءات. ميّز اذاً المشرّع اللبناني بين مختلف مصادر الدخل، فوضع لكل منها معدلات تختلف باختلاف مصدر الدخل. واعتبرت الفقرة “د” من المادة الرابعة من قانون ضريبة الدخل الصادر بالمرسوم الاشتراعي الرقم 144/1959 أنّ أي إيراد لا يكون خاضعا لأي ضريبة نوعية أخرى على الدخل، يكون خاضعاً لضريبة الباب الأول وهي الضريبة العامة من قانون ضريبة الدخل.
وبالحديث عن المعايير التي يبنى عليها القانون، ترى التيني ضرورة “اخراج المدينين العاديين من غير أصحاب المشاريع الكبرى، والذين سددوا ديونهم بطرق مشروعة ومباحة مثلا من خلال أموالهم المحجوزة في المصارف، من عِداد المشمولين بهذا القانون وحمايتهم بالحد الادنى”. وتشدد على أنه “لا بد للضريبة المراد فرضها من ان تحترم المعايير والمبادئ الدستورية في التكليف العام ومن بينها مبدأ المساواة والعدالة الضريبية ووحدة المعايير. مثلا اعتبر المجلس الدستوري في قراره رقم 5/2017 ان القانون المطعون فيه امامه لا يؤمن المساواة أمام الضريبة في ما بين المكلفين بضريبة الباب الأول لاختلاف طرق احتساب الأرباح للتكليف بالضريبة على أساسها”.
ليس خافيا ان الضريبة المقترحة تستهدف التعويض على المودعين، فكيف سيستفيد المودعون منها؟ من حيث المبدأ، وكأي ايراد عام يجب ان تدخل التحصيلات من التكليف الضريبي الجديد في خزينة الدولة عملاً بمبدأ الشمول الذي تكرسه مواد قانون المحاسبة العمومية، لا سيما المادة 51 منه، وتساهم هذه التحصيلات وفق التيني في تغطية جميع أوجه الانفاق العام كسائر الإيرادات العامة. غير انه ولجعل وجهة هذه التحصيلات واحدة فقط وفي مصلحة المودعين تحديدا، يمكن للقانون الذي يُقر ان ينص على تحويل الاموال الى صندوق مستقل للودائع.
ولكن هل يمكن ان يطبق القانون الجديد بمفعول رجعي؟ توضح التيني: “الأصل ان لا يسري القانون إلا من حين نفاذه وللمستقبل على ما يقع في ظله من اوضاع، فلا يطبق على ما حصل قبل صدوره، وهذا مبدأ عدم رجعية القوانين، الذي يرتبط بمبدأ الأمان التشريعي، حيث يكون الاشخاص أكثر ثقة بحقوقهم واوضاعهم وأكثر اطمئنانا الى ما يرعاها من قوانين. اما الخروج عن الأصل، أي مبدأ عدم الرجعية، فلا يكون إلا لمبررات واعتبارات المصلحة العامة والتي يعود للمشرّع وحده تقديرها وتقريرها”.
سلوى بعلبكي – النهار