فجأة إجا الشرف!!!! هي عبارة افتتاحيّة استهلّت بها أستاذة علم الاجتماع ورئيسة شبكة دراسات المرأة “صون” الدّكتورة ماريز يونس فقرة “حكاية أنثى” من برنامجها “لأنّي أنثى”، مسلطة الضّوء على موضوع “جرائم الشّرف”، كاشفة عن “ترسانة من الأحكام والمفاهيم التي تأتي تباعًا ما إن يحوم هذا المفهوم بغتة حول ذات بريئة في طور اكتشاف الذّات”.
أرادت د. يونس الغوص في أعماق هذا المفهوم وتجلّياته على أرض الواقع، وبين المجرّد والملموس دوّامة حقيقيّة يلعب فيها الجلّاد دور الحارس والشّاهد والضحيّة. وبطبيعة الحال، وحسب د. يونس، لم تكن الرّقابة الاجتماعيّة بمنأى عن سكيزوفرينيا النّوع الاجتماعي الّتي كرّست هي الأخرى “شرفا انتقائيّا مبنيّا على مكامن عقدة الجسد. وبين المقدّس والمدنّس أسطورة متوارثة تجعل من العنف الجسدي والرّمزي وعاء لقولبة الأسر الفكري، فيضحى المجتمع أسير نفسه ببساطة”.
كيف أضحى الشرف عنوانا للقتل ؟
تساؤلات عدّة طرحتها د. ماريز يونس على ضيوفها في الاستديو، البرفسور ساري حنفي أستاذ العلوم الاجتماعية في الجامعة الأمريكية، والدكتورة ترتيل درويش أستاذة القانون الجزائي في الجامعة العربي في بيروت، والأستاذة رندة عبود، أمينة سر الهيئة الوطنية لشؤون المرأة، والدكتورة جيهان أبو زيد باحثة ومتخصصة في قضايا الجندر وحقوق المرأة من مصر.
مفاهيم تقتحم عالم الأنثى
حكاية “داليا” تبدأ من سن السابعة، الطفلة المبدعة الفنانة التي كانت تنتقل من مسرح إلى مسرح بدعم أبويها وتشجيعهما، تروي لنا كيف توقفت حياتها منذ أن ظهرت علامات البلوغ على جسدها واقتحم “الشرف” عالمها البريء فجأة ووصم جسدها بـالـ “عورة”. الا أنها بمرارة وبراءة تتساءل ينها وبين نفسها عن شرف أخيها الذي يكبرها بثلاث أعوام، أين شرفه؟ ولماذا لم يأتيه ليسرق منه طفولته كما فعل معها؟ بينما يهددها الشرف بالقتل إذا أحبت أو عشقت ؟
سكيزوفرينيا الشرف: شرف انتقائي على أساس النوع
تلقي د. يونس من خلال قصة داليا ، الضوء على التناقضات التي يتضمنها مفهوم ” الشرف” في الأسر التقليدية البطريركية التي تعطي حقوقًا للرجل وتمنعها عن المرأة . فكشفت القصة عن “ازدواجية الأحكام التي تطلقها العائلة على السلوك نفسه لدى الجنسين”، فنسمع عبارات تتردّد لتأكيد “رجولة” ابنهم منذ الصغر، في حين تهدد الأنثى وأحيانا تعنّفها كلما مالت مشاعرها تجاه ذكر في مرحلة مراهقتها خوفا على “أنوثتها” وحماية لشرفها”.
حكاية “داليا” ا انتهت قبل أن تبدأ، فهي ابنة السادسة عشر التي قتلت على يد أخيها أمام الملأ، تكشف بحسب رأي د. يونس عن “دور الأهل ومسؤوليتهم الكبرى في التنشئة الاجتماعية التي تعطي للطفل “الذكر” صلاحيات للتسلّط على أخته وعلى جسدها، وتتيح له محاسبتها وتهديدها وحتى قتلها”.
الشرف يقدّس الجريمة!
تتناول د. يونس دخول فاعلين بتواطؤ مجتمعي وجماعي يُشكّل هذه الجريمة. وتطلق صرختها أمام الرأي العام لوقف تلك الجرائم بحق الإناث باسم الشرف.
القانون بين الانقياد لوطأة الثّقافة وبين محكّ العقل ومنطلقات حقوق الإنسان
القانون هو الآخر، حسب د. ماريز يونس، يحوز فلسفة خاصّة تجعله “يتأرجح بين الانقياد لوطأة الثّقافة ومحكّ العقل وحقوق الإنسان، كما من شأنه في بعض الأحيان، تكريس التّمييز النّوعي في انتقال لا طوعي بين العرف والمدنيّة؛ فلولا تعالي أصوات النساء والمناضلات وتكاثف جهود عظيمة لما عدّلت موادّ وألغيت أخرى”.
كيف يمكن اقحام مصطلح”الشرف” على جريمة قتل ؟ سؤال إشكالي وجهته د. ماريز إلى أستاذة القانون د. ترتيل درويش التي أوضحت أن المشكلة الأساسية ليست بالقانون بقدر ما هي مرتبطة ارتباطا وثيقا بالثقافة التقليدية. فوفق القانون والتشريع اللبناني تؤكد درويش إلغاء مصطلح “جريمة الشرف”، لكن عدم تطبيق القانون والتأخير والمماطلة في المحاكم يؤدي إلى إجراء مصالحة بين أهل الضحية وأهل الجاني، من خلال تنازل الأهل عن حق ابنتهم الضحية.
وترى درويش أن المجتمع هو الذي يقحم “الشرف” على الجرائم، ويبرر القتل تحت ذريعة غسل العار. فالبيئات التي تكثر فيها جرائم الشرف، لا زالت تعتبر أن العار مرتبط حصراً بالمرأة وجسدها و، علماُ أن هذه البيئات هي نفسها تشكل بؤرا لتجارة المخدرات والاتجار بالبشر، لكن لا تشكل مشكلة كبيرة عند أهلها، فالفساد مرتبط فقط بجسد المرأة .
بينما اعتبرت د. جيهان أبو زيد من مصر، أنّ قتل تحت عنوان الشرف ليس هو إلا ممارسة ذكورية للسيطرة على أجساد النساء، وللسيطرة الاقتصادية، وإعادة أشكال الاستبداد بكل تجلّياته ومستوياته ومؤسّساته.
أما بالنسبة للقوانين المرتبطة بجرائم الشرف في مصر، فتعتبر د. أبو زيد أن التعامل مع قتل الشرف يتم في مصر وفق القانون العرفي وليس القانون الوضعي. وتلك اشكالية كبيرة برأيها، أن نتعامل مع نوعين من القوانين إحداهما عرفي يقبله ويشجعه ويدعمه المجتمع وآخر وضعي يكرس سلطة الدولة دون أن تمتلك الأخيرة فعالية التطبيق.
التطوّر التدريجي للتشريع اللبناني حيال جريمة الشرف
من جهتها أثنت المحامية رندة عبود، أمينة سر الهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية على التطور التشريعي الذي شهده لبنان بشأن قضية جرائم الشرف وقضايا العنف عامة. حيث أدّت جهود منظمات المجتمع المدني بالتعاون مع الهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية إلى إلغاء المادة التي تعفي القاتل من العقوبة. كما اعتبرت أن قضايا المرأة يلزمها الصبر والوقت الكاف لمعالجتها، ففي مجتمع متعدّد مثل لبنان، لا يمكن إزاحة الأمور الشرعية أو الغاء الطائفية بسهولة ومرة واحدة، انما علينا تجزئة القضايا والتقدّم بشكل تدرّجي.
جرائم الشرف بين المقدّس والمدنّس
من جهته، أشار د. ساري حنفي إلى أمثلة عن جرائم الشرف التي حصلت في فلسطين -غزة، حيث تم قتل الفتيات باتهامهن بالعمالة لدى ” إسرائيل” ، لكنهن بالحقيقة قتلن للتخلص منهن دفاعا عن الشرف.
ويعتبر حنفي أن جرائم الشرف لها علاقة وثيقة بالجغرافيا، أي بالمناطق وتوزّعها بين ريف ومدينة أكثر من ارتباطها بالدين. حيث تبيّن الدراسات التي أجريت على جرائم الشرف في سوريا والعراق والأردن أنها لم تكن مرتبطة بديانة معينة بقدر ارتباطها بمكان معين. فجرائم الشرف تحصل في المجتمعات الريفية والبدوية بنسبة أكبر من المجتمعات الحضرية، إذ لعب التحضر دورًا كبيرًا بخلق علاقات أخرى بين أفراد العائلة، خففت من امكانية تحميل العائلة مسؤولية سلوك فرد منها.
وأكدّت د. جيهان أبو زيد هذا الأمر، وأشارت إلى تزايد جرائم الشرف في صعيد مصر والتي غالبا ما يتم التستر عليها وتدفن النساء بعد قتلهن في مدافن مجهولة، مشيرة أن ليس هناك احصائيات واضحة حول هذا الأمر.
لا شرف في الاجرام، ولننزع القدسية عن جرائم قتل النساء، هي الرسالة التي وجّهتها د. ماريز يونس في ختام حلقتها إلى الرأي العام وأصحاب الضمير في لبنان والعالم العربي، داعية إلى وقف الإجرام ومسلسل الدم على أساس النوع الاجتماعي، مطالبة بنزع القدسية والقداسة عن جرائم الشرف، ومشددة على أنه ليس هناك جريمة “شريفة”، فلا شرف في الإجرام ولا شرف في القتل.