بلغ استهتار الطبقة الحاكمة واستخفافها بمعاناة اللبنانيين وهمومهم حداً يفوق كلّ تصور ويكاد لا يصدّق. إنهيارات بالجملة في كل القطاعات والطبقات وليس هناك في السلطة من يرف له جفن او ضمير، بل إمعان في المماحكات والمهاترات فوق أنقاض الدولة وأشلاء الاقتصاد. السفينة تغرق بركابها شيئاً فشيئاً، فيما أفراد طاقمها يتنازعون على القيادة نحو القعر، في إنكارٍ للواقع غير مسبوق. ولقد ابتلي المسؤولون بالمعاصي لكنهم لم يستتروا، وفق النصيحة الشهيرة. لا يكفي انهم أخفقوا حتى الآن في تشكيل الحكومة التي هي أضعف الإيمان، وإنما نشروا الغسيل الوسخ على السطوح من دون اي خجل او وجل. ولعلّ حرب البيانات التي اندلعت بين قصر بعبدا وبيت الوسط، وحرب الصلاحيات التي نشبت بين القضاء وبعض السلطة السياسية تؤشّران الى حجم الفوضى التي تضرب الدولة، بحيث لم تعد هناك من مرجعية ناظمة يمكن الاحتكام اليها لضبط الإيقاع المتفلّت ولجم الانحدار نحو عمق الهاوية. يصرّ المعنيون على الاستمرار في التصرف وكأنّ افلاساً لم يحصل، وانهياراً لم يقع، وودائع لم تُحتجز، ودولاراً لم يقفز، وجوعاً لم يتمدد. انها سياسة النعامة وحركة السلحفاة في مواجهة أزمة طاحنة، تلتهم اليابس وما بقي من أخضر. يتبادلون الإتهامات الممجوجة ويُحمّل كل منهم الآخر المسؤولية عن العرقلة، في سلوك معيب ومهين، لا يرقى الى الحد الأدنى من الحس الوطني او حتى الانساني. وما يعزّز هذه الحقيقة المرّة هو تأكيد أوساط مطلعة لـ»الجمهورية» ان «لا حكومة قريباً، وانّ انتقال التفاوض بين عون والحريري من الغرف المغلقة الى البيانات العلنية المرتفعة السقف سيعقد الأمور أكثر فأكثر، وسيُصَعّب المعالجات في انتظار صدمة ما تدفع أصحاب الشأن الى تبادل التنازلات». واشارت هذه الاوساط إلى أنّ «المشالقة» بين عون والحريري «كشفت كم انّ أزمة الثقة بينهما هي حادة، علماً انّ هناك من يأمل في أن تشكّل زيارة الرئيس الفرنسي للبنان عامل ضغط وقوة يدفع في اتجاه تذليل العقبات.
أربعة ملفات أساسية تتقدّم إلى الواجهة دفعة واحدة: المواجهة المستعرة على جبهة بعبدا – «بيت الوسط» ومن ضمنها أزمة تأليف الحكومة المتمادية، المواجهة القضائية في ملف تفجير المرفأ على أثر الاستدعاءات الأخيرة، زيارة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون للبنان في 22 من الجاري وما إذا كان هناك من فرصة بعد لخرق الجمود الحكومي، وملف الدعم والخشية الشعبية من الوصول إلى المحظور مع الاضطرار إلى رفعه.
على انّ تراجع وتيرة السجال المباشر بين بعبدا و»بيت الوسط» لا يعني تسوية الخلاف المسبّب لهذا السجال في ظل الخلاف في مقاربة الطرفين لملف تشكيل الحكومة، هذا الخلاف الذي تحوّل سجال صلاحيات ودستور ونظام، وكشف انّ عون والحريري ليسا في وارد التراجع عن رؤيتيهما للتشكيل الحكومي، بين رئيس الجمهورية المتمسك بالتشاور مع الكتل النيابية والرافض ان يسمّي الرئيس المكلف الوزراء المسيحيين، وبين الرئيس المكلف الذي لا يريد ان يمنح رئيس الجمهورية «الثلث المعطّل» ويتمسك بتسمية بعض الوزراء المسيحيين. وقد أدى هذا السجال الساخن إلى تبديد الرهان على الاجتماع الأخير بينهما من أجل ان يشكل خرقاً في التأليف، لا بل «زاد في الطين بلة»، حيث أصبح من الصعوبة بمكان تذويب الجليد الذي تراكم بفعل الاشتباك الأخير، فضلاً عن انّ كلّاً منهما ينطلق من قاعدة مختلفة لطبيعة الحكومة العتيدة، الأمر الذي وضع الحكومة بين مطرقة رئيس الجمهورية وسندان الرئيس المكلف. وحيال هذا التطور، تراجع الرهان أيضا على قدرة الرئيس الفرنسي في تحقيق الخرق المطلوب، إذ في حال لم ينجح هذه المرة أسوة بسابقاتها، فإنه سيوجه رسالة شديدة اللهجة الى المسؤولين اللبنانيين بترك لبنان لقدره ومصيره.
وقد تشكل زيارة ماكرون الفرصة الأخيرة لولادة الحكومة على رغم ضآلة نجاحها، وفي حال تخلّى الوسيط الفرنسي عن دوره فإنه لن يبقى وسيطاً للبنان لا داخلياً ولا خارجياً، كما ان لبنان سيفقد سنده الدولي الأخير في ظل الحصار المطبق عليه عربياً وغربياً. وبالتالي، اين المصلحة اللبنانية في تبديد هذه الفرصة، خصوصاً ان الوضع المالي يتدحرج من السيئ إلى الأسوأ؟
وفي موازاة الهم الحكومي الذي يشكل المدخل الوحيد لوضع لبنان على السكة المطلوبة، لأنه من دون حكومة لا أمل في الإصلاح، ومن دون إصلاح لا أمل في المساعدات، فإنّ الملف القضائي يبقى بدوره عنصر اشتباك داخلي يصعب التقدير معه ما إذا كان سيتمكن من الوصول إلى النتائج المطلوبة في تفجير المرفأ بكشف ملابسات كل هذا التفجير وكيفية حصولها والمسؤوليات المترتبة على كل من أدخل النيترات او تغاضى عنها بالتواطؤ أو الإهمال.
إستجواب الوزراء
وفي خطوة عبّرت عن نيته المضي في استدعاء عدد من المسؤولين الى القضاء، جدّد المحقق العدلي في انفجار مرفأ بيروت القاضي فادي صوان دعوته رئيس حكومة تصريف الاعمال حسان دياب للاستماع اليه يوم الجمعة.
وعلمت «الجمهورية» أنّ موقف دياب من تحديد صوان التاسعة صباح الجمعة موعداً جديداً لاستجوابه هو قيد الدرس، فيما قالت مصادر مواكبة لهذا الملف «انّ النقاش حالياً يدور حول ما قام به صوان لجهة خرقه الدستور والاعتداء على صلاحيات مجلس النواب ونصوص الدستور الواضحة في هذا الشأن». واضافت «انّ السؤال الكبير الذي يطرح اليوم هو اين رئيس الجمهورية من مخالفة صوان الدستور وهو من أقسم اليمين على حمايته؟».
والى ذلك قرر صوان استجواب كل من وزير المال السابق النائب علي حسن خليل ووزير الأشغال العامة والنقل السابق النائب غازي زعيتر كمدعى عليهما اليوم، وذلك بعد أن تبلّغا أصولاً عبر مراسلة الأمانة العامة لمجلس النواب، وكذلك على عنوان منزليهما.
ولكن علمت «الجمهورية» انّ خليل وزعيتر لن يمثلا عند الثامنة صباح اليوم أمام المحقق العدلي، ولن يوكلا محامٍ عنهما، في اعتبار انهما لم يتبلغا لا في منزلهما ولا عبر المجلس النيابي. وهما ينتظران مسار هذه القضية التي تحكمها صلاحيات المجلس النيابي والمواد الدستورية.
وقد استدعى صوان رئيس الأركان السابق في الجيش اللواء المتقاعد وليد سلمان بعد غد الجمعة للإستماع الى إفادته بصفة شاهد.
فنيانوس وحيداً
وكان وزير الأشغال السابق يوسف فنيانوس، الذي تجاوب منفرداً مع دعوة صوان الى الاستماع الى افادته كمدعى عليه، قد حضر امس وفق الموعد السابق الى قصر العدل، ومن ثم غادره بعد أن تبلّغ موعداً جديداً سيحدد لاحقاً، على أن يتم تبليغه إيّاه أصولاً.
وأكد فنيانوس لـ«الجمهورية» انه سيواجه على طريقته ادعاء صوان، فهو محام ولديه خطة المواجهة ويعرف تماماً كيف يتصرف. وقال: «قررت ان أمثل امام القاضي صوان ولكن على توقيتي، وسأتخذ قراري في شكل منفرد فأنا عاري اليدين ولا حصانة نيابية لديّ، لكن ضميري مرتاح، لذلك سأذهب وسأواجهه وسأقول له انه خرق الدستور وجهاً لوجه وخصوصاً المواد 40 و70 و71 منه».
وعما اذا كان يخشى أن يتم توقيفه غيابياً اذا لم يحضر؟ قال فنيانوس: «من يريد توقيفي وجاهياً يستطيع توقيفي غيابياً، ومن خالف الدستور يمكن ان يقدم على اي خطوة اخرى».
لا معلومة
ولفتت مراجع امنية وقضائية الى عدم الحاجة الى ضخ معلومات خاطئة، بمثل التسريبات المسيئة الى معنويات المواطنين واهالي الضحايا خصوصاً. وقالت ان هذه المعلومات لن تؤثر في ملف التحقيق الذي لن يستند الى اي منها، وهو لم ولن يأخذ إلّا بما لدى قاضي التحقيق العدلي من معلومات جمعت من التحقيقات الجارية والتحريات والمستندات التي لا نقاش فيها.
مواقف
وفي المواقف، دعا تكتل «لبنان القوي» في بيان إثر اجتماعه الدوري الكترونياً، أمس، الى «التعاطي بهدوء وعقلانية مع الملفات الضاغطة وفي مقدمها موضوع التحقيق في انفجار مرفأ بيروت». وحذّر من وجود «نيّات، وربما مخططات لتعطيل التحقيق العدلي في هذه الجريمة او حَرفه عن مساره وانسحاب ذلك على سائر الملفات المطروحة أمام القضاء، لا سيما منها ما يتصل بجرائم الفساد وهدر المال العام».
وحذر التكتل من «مناخ مريب بدأ يتشكل على خلفية شائعات خطيرة وفبركات مخابراتية انجَرّ البعض وراءها مروّجاً لكذبة وجود غرفة سوداء، تُفبرك الملفات لصالح فريق رئيس الجمهورية»، لامساً وجود «مخطط خطير وراء هذه الأخبار المشبوهة يهدف الى اثارة المخاوف والعصبيات الطائفية لإحداث فتنة في البلاد، لا سمح الله، تكمل مسلسل ضرب الاستقرار الذي بدأ بالانهيار المالي». ودعا «رئيس الحكومة المكلف الى وقف المشاركة او افتعال اشكالات وتصعيد المواقف واختلاق مخاطر تهدد موقع رئاسة الحكومة، التي يحرص التكتل عليها كحرصه على كافة المواقع الدستورية، ويخشى ان يكون الهدف خلق جدران طائفية لوقف مكافحة الفساد وافتعال اسباب تأخير ولادة الحكومة».
«الكتائب»
وبدوره، قال حزب «الكتائب» إنّ المنظومة السياسية «تحاول ادخال القضاء في متاهات الاصطفافات من كل نوع لتطيح التحقيقات بالفساد والسرقات هرباً من الإصلاح، ولتطمس تورّطها في قتل اللبنانيين وتفجيرهم في منازلهم الآمنة هرباً من المحاسبة».
ورفض الحزب، في اجتماع لمكتبه السياسي، «الهجمة الممنهجة التي تُمارس من أهل السلطة على القضاء وترهيبه لإسكاته عن ارتكاباتها»، داعياً القاضي صوان الى «استكمال عمله من دون الرضوخ للضغوط، وتوسيع لائحته الاتهامية لتطاول كل المتورطين والمتخاذلين عن حماية اللبنانيين مهما علا شأنهم». ورأى انّ «حرب البيانات الرئاسية أثبتت بما لا يقبل الشك انّ مسرحية التأليف تخضع لمعيار وحيد هو تَقاسم الحصص والأسماء، للإيحاء بتشكيل حكومة حيادية، فيما ثبت انّها ليست سوى عملية تقاسم للمكاسب، لصرف نفوذ يُمارس على اللبنانيين بمختلف الاسلحة، لاستعادتهم الى بيت الطاعة الطائفية والمذهبية والحزبية».
تعليق اضراب «العمّالي»
اقتصادياً ومالياً، بدا انّ ما وصل اليه الوضع «حدّث ولا حَرج»، إذ في حال لم تتشكل الحكومة فإن ملف الدعم لم يعد خياراً، لأنّ المَس بالاحتياطي الإلزامي يجب ان يكون من الخطوط الحمر. وبالتالي، يجب تأمين التمويل اللازم قبل فوات الأوان، وهذا التمويل لا يمكن تأمينه سوى بالتواصل مع المنظمات الدولية، فهل حكومة تصريف الأعمال من سيتولى هذا الملف الدقيق؟ وهل هي قادرة على ذلك؟ وبمَن سيستعين لبنان؟
وقد سُحب أمس فتيل المواجهة في الشارع بعدما قرّر الاتحاد العمالي العام تعليق الاضراب العام الذي كان مُقرراً اليوم، احتجاجاً على تردّي الاوضاع الاقتصادية، وتعثّر الوصول الى قرار في شأن طريقة ترشيد الدعم.
وكان لافتاً التبرير الذي قدمه رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الأسمر لتعليق الاضراب، من خلال الاشارة الى انه «بعد إعلان الإضراب، يبدو أنّ هناك من شعر بالمسؤولية والخطر من انفلات الأمور، حيث تمّت سلسلة مشاورات مع رئيس الحكومة وعدد من الوزراء المعنيين، للبحث تحديداً في موضوع رفع الدعم عن المواد الأساسية، كالمحروقات والدواء والقمح والطحين».
ولمح الأسمر الى «أنّ الدعم على الطحين سيستمر كما هو من دون اي تعديل، وكذلك تصنيف الطحين بين ما هو مخصّص لصناعة الرغيف أو للمناقيش وسواها من المشتقات». وأشار الى اعتماد خطة لخفض فاتورة الأدوية المستوردة، بما يؤدّي إلى خفض الفاتورة بقيمة 250 مليون دولار، «بينما سياسة «الترشيد» المطّاطة كانت ستؤدي إلى إفلاس كل الهيئات الضامنة من دون استثناء، علماً أنّ أكثر من نصف الشعب اللبناني غير مضمون من أية جهة ومعرّض للموت».
وبقي موضوع رفع الدعم عن المحروقات غامضاً على اساس انه مرتبط بالمفاوضات الجارية مع العراق لتأمين المواد الخام بأسعار متدنية وآجال دفع طويلة، مع العلم أنّ المازوت لن يُطاوله أي نوع من الضريبة أو الزيادة.
هذه الايجابيات التي تحدث عنها الاتحاد العمالي العام تحتاج الى متابعة، على اعتبار ان لا شيء مضموناً حتى الآن، كما انّ مسألة التمويل لا تزال غامضة، ما دام مصرف لبنان حاسماً في قرار عدم استخدام اي قرش من الاحتياطي الالزامي للدعم. فكيف سيتم تجاوز هذه الاشكالية؟
كورونا
وعلى صعيد الصحي، أعلنت وزارة الصحة العامّة، في تقريرها اليومي أمس، تسجيل 1264 إصابة جديدة (1253 محلية و11 وافِدة)، ليصبح العدد الإجمالي للإصابات 148877». كذلك سجلت 13 حالة وفاة جديدة، وبذلك يصبح العدد الإجمالي للوفيات 1223.