منذ أن اغتصبت فلسطين في العام 1948 وسجلت على العرب أول نصر في حرب الإنقاذ، اعتمدت “إسرائيل” لنفسها عقيدة قتالية جوهرها “الاستراتيجية الهجومية “و”الحرب الخاطفة” على “أرض الخصم”، وأوْكلت تنفيذ ذلك لجيش أعدّته بإتقان ووفرت له كلّ أسباب القوة والتفوّق حتى ذاع صيته بأنه “الجيش الذي لا يُقهر”، وسلم الكثير من أعداء “إسرائيل” وأصدقائها بهذه المقولة حتى زرع في الذهن مفهوم خطر من شأنه أن يردع العدو عن مواجهة “إسرائيل” في الدفاع أو الهجوم لأنّ النتيجة محسومة بالنصر “الإسرائيلي” المؤكد، وهذا ما تشهد عليه حروب “إسرائيل” مع العرب منذ 1948 الى 1982، ولم تشذ عن هذا النمط سوى حرب تشرين 1973 التي حققت الإنجازات العربية الكبرى في ايامها الاولى ثم عادت إسرائيل واجهضت تلك الإنجازات اومعظمهما بعد تثبيت الجبهة المصرية .
بيد انّ “إسرائيل” التي حلمت بان تكون حرب 1973 آخر الحروب التقليدية وحرب 1982 آخر الحروب ضدّ المقاومة والقوى غير التقليدية، خاب ظنّها ولم يتحقق حلمها بعد قيام مقاومة في لبنان وفي فلسطين تختلف في أكثر من جانب في نهجها وعقيدتها ومساراتها عن المقاومات السابقة التي وانْ كانت سطرت في كثير من المراحل صفحات مشرقة إلا أنها لم تصل الى حدّ تغيير المسار في الصراع وبقيت “إسرائيل” في موقع المسيطر الممسك بزمام المبادرة ويحقق الانتصارات التي يبتغيها، الى ان وصل الى فتح باب التطبيع مع بعض الدول العربية.
لكن هذا المشهد كُسر في لبنان للمرة الأولى في تاريخ الصراع وسجل “انكسار إسرائيل” وإلزامها بالخروج من أرض تحتلها خروجاً دون قيد او شرط حتى ودون تفاوض وكان نصر لبنان في العام 2000 بتحرير أرضه من الاحتلال الإسرائيلي نقطة تحوّل تاريخية في مسار الصراع، ثم تكرّس ذلك في العام 2006 حيث منعت “إسرائيل” من تحقيق أيّ من أهداف عدوانها الهجومي على لبنان ما شكل هزيمة لها أطاحت بكثير من الرؤوس لديها في المستويين العسكري والسياسي. ورغم ان “حرب لبنان الثانية” كما تسمّيها “إسرائيل” أحدثت انقلاباً في المفاهيم وفرضت مراجعة العقيدة العسكرية الإسرائيلية إلا أنها لم تطح بالعقيدة القتالية لجهة الهجوم والحرب على أرض الخصم رغم أنها زجّت قسماً واسعاً من فلسطين المحتلة في أتون الحرب،
تنبّهت المقاومة لهذا الأمر، وأطلقت أول إشعار يضيء على نواياها المستقبلية عندما أعلن سيد المقاومة في لبنان “انّ على المقاومين ان ينتظروا يوماً يقاتلون فيه على أرض الجليل الفلسطيني المحتلّ”، ما شدّ الانتباه العام الى تطوّر استراتيجي خطر فُرض على “إسرائيل”، وعطفاً على ما كانت واجهته على يد المقاومة، فقد فُرض عليها الأخذ بجدية باستراتيجية دفاعية تعمل بها بالموازاة مع الهجومية التقليدية وهي الأساس في عقيدتها، واعتقدت انّ خطر الهجوم قائم على الجبهة الشمالية فركزت جهودها على اتقائه واعتمدت أسلوب الحدود المحصّنة والمعقدة التركيب من سياج شائك مكهرب الى سياج الكتروني أضافت اليه جدراناً إسمنتية عالية، وجهّزت المجموعة بشبكة مراقبة مسجلة ورادارات كشف الحركة، وعززت الحدود بالأبراج للمراقبة فضلاً عن حقول الألغام أحياناً. أسلوب بدأت به في الحدود مع لبنان ونقلته الى غلاف غزة التي نظمت أوضاعها لتكون منطقة آمن نموذجي لـ “إسرائيل”. ومع هذا السلوك ظنّت “إسرائيل” انّ للتسلل اليها طريق واحد هو الأنفاق، لذلك أوْلت مسألة المراقبة لكشف الحفر والأنفاق الحدودية أهمية خاصة واتخذت كلّ التدابير الوقائية لتمنع المفاجأة.
وفي صباح 7 تشرين الأول 2023 كان الزلزال الصادم يضربها من الجنوب عبر هجوم فلسطيني على أرض تحتلها وتدّعي ملكيتها، هجوم ينفذ تحت عنوان “طوفان الأقصى”، طوفان جرف المفاهيم العسكرية الإسرائيلية مع جرفه للتدابير الميدانية الدفاعية، زلزال هز كلّ شيء في “الكيان الزائل” فصدمت “إسرائيل” بحقيقة مرة لا أعتقد أنّ الأيام والأسابيع كافية لهضمها واستيعابها حقيقة تقول انّ “إسرائيل” تخدع نفسها عندما تدّعي أنها تملك القوة القادرة على حمايتها، وانّ عقيدتها القتالية سقطت ولم تعد صالحة في أركانها الأساسية للأعمال الآمنة.
فالمقاومة الفلسطينية استطاعت ان تعبر خط الفصل بين غزة المحرّرة وغلافها المحتلّ بالمئات من المقاومين الذين اندفعوا من البرّ وهبطوا من الجو ونزلوا من البحر، وهاجموا 50 موقعاً ومركزاً وفاجأوا “الجيش الذي لا يُقهر” في غرف نومه، وقتلوا وجرحوا وأسروا منه المئات، ولامس العدد غير النهائي من الخسائر 3000 صهيوني بين مدني وعسكري.
طوفان الأقصى جرف الصور الداكنة من تاريخ الصراع مع الصهيونية، وفتح باب مرحلة جديدة تختلف عن سابقاتها في أكثر من جانب ووضع المنطقة على عتبة فجر جديد وحفز وهو في أيامه الأولى لطرح أسئلة كبرى عن مسار الصراع وما ينتظر المنطقة.
والسؤال الأول يدور حول نطاق المواجهة وإمكانية توسع الحرب، هنا نقول انّ تهديد الغرب الأميركي والأوروبي و”التمني والنصح” العربي والإقليمي بأن لا تدخل قوى أخرى في المواجهة والمقصود هنا حزب الله وإيران، انّ كلّ هذه الضغوط لن تؤثر في قرار محور المقاومة الملتزم بنظرية “وحدة الساحات” التي تقوم على قاعدتين الأولى صلاحية كلّ جبهة بإدارة نفسها ومواجهة ما يتهدّدها من أخطار كما ترى هي وتبقى الجبهات الأخرى في حالة الجهوزية والترقب والقاعدة الثانية تحريك جبهة أخرى أو أكثر لنصرة او تخفيف الضغط عن الجبهة المشتبكة، وفي التطبيق العملي نقول انّ الحرب لن تتوسع طالما بقيت المقاومة في غزة مطمئنة الى وضعها فإنْ اختلّ الميزان لمصلحة العدو كان تدخل الجبهات الأخرى ممكناً لمنع استفراد مكوّن أساسي من مكونات محور المقاومة. وهذا ما أفصحت عنه صواريخ المقاومة على مراكز الاحتلال في مزارع شبعا اللبنانية.
والسؤال الثاني كيف ستنتهي المواجهة؟ قد يكون مبكراً طرح هذا السؤال لكنه أمر لا بدّ منه وجوابه بالمختصر انّ المقاومة الفلسطينية لا يمكنها التراجع عما حققت من منجزات قابلة للصرف في مجال تحرير كلّ الأسرى في سجون العدو وحماية فعّالة للمسجد الأقصى وقواعد إنسانية للتعامل مع قطاع غزة. أما العدو الإسرائيلي فإنه سيكون عليه الاختيار بين سيناريوات ثلاثة، إما عملية برية ضدّ غزة، وإما تطبيق نظرية الضاحية لتدمير غزة على أهلها، وإما عمليات عسكرية مركبة تنتج بيئة تفاوض بعد تدخل الوسطاء ونحن نستبعد الأول والثاني لأنّ فيهما انتحاراً او شبه انتحار أعتقد انّ إسرائيل لن تقدم عليه إلا في حال الجنون واليأس ونرجح الثالث الذي يلزمه بعض الوقت لتنضج ظروفه لذلك لا ينتظرن أحد وقف الأعمال القتالية قريباً.
أما السؤال الثالث فيدور حول تداعيات “طوفان الأقصى” على المشهد في المنطقة، هنا في الإجابة نقول انّ كلّ ما كان قائماً في المنطقة قبل الطوفان سيتأثر بدرجات متفاوتة من هذا الطوفان شاملاً في ذلك إجراءات التطبيع ودمج “إسرائيل” في المنطقة ومشاريع الربط الأمني والاقتصادي فضلاً عن الأفكار التي كانت تروّج لإنشاء المحور الإقليمي لمواجهة محور المقاومة، أما مشاريع تصفية القضية الفلسطينية على تعدّد عناوينها فإنها غرقت في مياه الطوفان ولا يمكن لعقل ان يتمسك بها ففلسطين انتصرت والسؤال ما هو حجم الانتصار وكيف يستثمر. ويبقى أن نشير الى فرضية التدخل الأميركي المباشر وزجّ قوات أميركية في الحرب لنسف تداعيات طوفان الأقصى تلك، واننا نستبعد هذه الفرضية التي تمنع العمل بها ظروف أميركا الذاتية كما والبيئة الإقليمية والدولية غير المناسبة لعمل عسكري أميركي مباشر ولو كانت أميركا جاهزة للحرب لما انسحبت من أفغانستان ولما تأخرت في أوكرانيا،
وفي الخلاصة نرى انّ طوفان الأقصى أحدث صدمة عظيمة بما حمله من مفاجآت وشكل زلزالاً أطاح بمعظم عناصر المشهد الفلسطيني والعربي والإقليمي، ومن المبكر الرسم الدقيق لعناصر المشهد البديل إنما يلخص بأنه مشهد انتصار للمقاومة ومحورها بشكل تاريخي غير مسبوق، ومشهد ذلّ وهزيمة وانكسار للمشروع الصهيوني ورعاته والعاملين به…
العميد د. أمين محمد حطيط – البناء