تعرَّضَ مستشفى رفيق الحريري الجامعي في بيروت لمنعطفات حاول تجاوزها بشتّى الطرق، لكن تتالي الضربات من الداخل والخارج، جعل صموده شبه مستحيل. ووصل الأمر إلى إعلان موظفيه حالة طوارىء للمستشفى الذي صمد في حرب تموز 2006 وقدّمَ نموذجاً مشرِّفاً في المعركة ضدّ فيروس كورونا، رغم إصابته بلعنة انهيار سعر صرف الليرة وعدم كفاية إيراداته لتغطية نفقاته.
أما وقد ارتفع منسوب التوتّر الأمني على الحدود مع فلسطين المحتلة، طارحاً سيناريوهات التصعيد وصولاً إلى احتمال الحرب، عاد النقاش داخل المستشفى حول استعداده للقيام بدوره. لكن المعطيات المتوفِّرة حالياً، تدفع باتجاه استحالة التعويل على دور فعّال. وأبعد من ذلك “قد ينهار المستشفى قبل وقوع أي حرب”.
ضياع إداري
قبل نحو 4 سنوات، بدأت بوادر أزمة مستشفى الحريري الحكومي بالتفاقم بعد اجتماع الضغط المالي مع التخبّط الإداري الذي كان يتراكم قبل الأزمة الاقتصادية التي تسارعت في العام 2019. ولم تتعامل وزارة الصحة بشكل جدّي مع أزمة المستشفى، حتى استحالت عودته بالزمن إلى حيث كان مقرّاً للمنظمات الدولية ومقصداً للمرضى يوازي كبرى المستشفيات الخاصة.
الظروف الإستثنائية المطلوب من المستشفى مواجهتها حاضراً، لا تتناسب مع جهوزيّته. وعلى المستوى الإداري، لا يزال المستشفى يُدار بلجنة إدارية بعد تعذُّر تعيين مدير عام أصيل. وسبق ذلك تعيين مدير خلفاً لفراس الأبيض الذي انتقل من منصب مدير عام للمستشفى إلى وزير للصحة. “بالتوازي، تم تعيين مديرة عامة، شهد معها المستشفى فترة ضياع وتدهورَ حاله كثيراً بالتزامن مع الصعوبات المالية التي حالت دون تأمين الكثير من المستلزمات. ولم تستطع الإدارة الحفاظ على عقود تأمين المعدات الطبية وأعمال الصيانة كما يجب. بعدها استلم الإدارة مجلسٌ أنهى عقود بعض شركات تقدِّم خدمة صيانة المعدّات، وذلك قبل التعاقد مع شركات أخرى. ما يعني أن المستشفى اليوم ليس متعاقداً مع شركة لصيانة معدّاته”، وفق ما تقوله مصادر إدارية داخل المستشفى.
عدم وجود إدارة حازمة، يعني أن الضياع مستمر. ووزارة الصحة تتجاهل دوره، فيزيد نزف المستشفى مادياً، سيّما وأن الإدارة تماطل في “توقيع عقود استقبال المرضى على نفقة وزارة الصحة، ما يؤخّر تحويل المستحقات المالية التي للمستشفى على الوزارة. علماً أن تأخير توقيع العقود يُفقِدُ المستحقّات قيمتها الشرائية مع تحرّك سعر صرف الدولار”.
التحضير للأسوأ
تحت إشراف خطة الطوارىء التي أعلنتها وزارة الصحة منذ أسبوع، يتحضَّر المستشفى للسيناريو الأسوأ، وهو احتمال وقوع الحرب. وفي تلك اللحظة “يتحوَّل الأطباء والممرّضون إلى الجراحة وتتحضَّر كل الطوابق لاستقبال العمليات الجراحية، ما عدا قسم الطب الداخلي. ويحاول المستشفى عدم استقبال الحالات المرضية غير المستعجلة والطارئة”، وفق ما يقوله مدير عام المستشفى بالوكالة جهاد سعادة، الذي يشير في حديث لـ”المدن”، إلى أنه استعداداً للأزمات، يتم “تأمين مخزون من الطعام واللوازم الطبية والأدوية”.
هذه التجهيزات تواجه “مشكلة التمويل”. وبحسب سعادة “أموال المستشفى بالليرة، ولا أحد من المورِّدين يوافق على تسليم لوازم بالأمانة قد لا نستعملها، وما نستعمله ندفع ثمنه”.
في المقلب الآخر، لا تستبشر المصادر خيراً بما تفعله وزارة الصحة وإدارة المستشفى. وتستند المصادر في حديث لـ”المدن”، إلى استعدادات كانت تقوم بها الوزارة سابقاً، ولم تبادر لها حتى الآن. إذ “كانت الوزارة في أوقات الأزمات، ومنها حرب تموز 2006، تضع خطة طوارىء وتسارع إلى صرف مستحقات المستشفى من الفواتير المتراكمة وتستند إلى جردة المستشفى من أدوية ومستلزمات، وتسارع إلى مراسلة المورِّدين والجهات المانحة لتأمين الاحتياجات”. وعلى عكس ذلك “لم تدفع الوزارة فواتير المستشفى، ولم تؤمّن مستلزمات طبية وأدوية، بل اكتفت بالطلب من المستشفى شراء ما يلزم، وهي تعلم حقيقة الوضع المالي”.
في تقييمها لأداء الوزارة، تذهب المصادر أبعد من عدم توفّر المال. بل “هناك تعمُّد في إهمال الوزارة للمستشفى، وهناك ممارسات يقصد منها تركيع المستشفى وتدميره”. وعلى سبيل المثال “كان المستشفى مركزاً لبرامج جمعيات المجتمع المدني ومنظمات مثل الصليب الأحمر الدولي وأطباء بلا حدود ومنظمة الهجرة الدولية… وغيرها، فدفعتهم الوزارة باتجاه مستشفيات الأطراف والمستشفيات الخاصة. وكان مستشفى الحريري يستفيد منهم بمبالغ مالية كبيرة”.
ابتزاز وخوَّات
بنظر المصادر، تُرِكَ المستشفى لمصيره وسط أزمة اقتصادية وحكم الأمر الواقع. فعلى سبيل المثال، “يتعرَّض المستشفى لابتزاز بعض الشركات التي تؤمِّن الأوكسجين ومعدات وأدوات للعمليات الجراحية ومرضى غسيل الكلى، وكذلك بعض شركات الأدوية”.
على المستوى الفنّي داخل المستشفى “هناك علامات استفهام حول حجم المازوت المستعمل لتوليد الكهرباء. فنسبة الاستهلاك بقيت على حالها وكأن المستشفى يعمل بكامل طاقته التشغيلية، في حين أنه يعمل اليوم بنحو 40 بالمئة من طاقته. فأين يذهب كل هذ الاستهلاك؟. علماً أن مكيّفات الهواء لا تُشَغَّل بحجّة توفير المازوت”.
المصاعد الكهربائية توقفت عن العمل بسبب عدم إجراء الصيانة الدورية. وبقي مصعد واحد يعمل من أصل 14. والشركة المتعهدة إجراء الصيانة، امتنعت عن ذلك لكي تحصل على السعر المناسب. وعندما جرى توقيع العقد معها بسعر يناسبها، تم تشغيل 7 مصاعد فوراً، مع أنها لم تخضع لأي صيانة. فكيف توقفت ثم عملت بلا صيانة وفي اليوم نفسه الذي وقّع فيه العقد؟”. وتلفت المصادر النظر إلى أنه “في حين كانت المصاعد متوقّفة، كان يتم نقل الحالات المرضية على الأدراج، بما فيها حالات الولادة وغسيل الكلى والعمليات الجراحية”.
خارج المستشفى، “يتعرَّض موقف السيارات الخاص إلى إدارة قوى الأمر الواقع في الشارع. إذ يعمد بعض شبّان المنطقة إلى الوقوف على مدخل الموقف ويتقاضون مبالغ مالية من الزوار كأجرة للموقف، ويعطون إدارة المستشفى يومياً مبلغاً زهيداً، ويأخذون الباقي”.
يعيش المستشفى اليوم أسوأ عهد له، في ظروف أصعب من حرب تموز أو أي حرب قد تقع. “فالمستشفى يعيش حالة حرب يومية، وهو آيل للانهيار قبل حدوث حرب عسكرية. فأي مريض يأتي، عليه الانتظار ليرى ما إذا كان يمكن استقباله وإذا كان المستشفى قادراً على إجراء الفحوصات اللازمة، أو كان هناك أطباء لمعالجة حالته الصحية”. وفي ظل هذا الوضع، تطرح الوزارة خطة طوارىء من خارج مبنى المستشفى وامكانياته. في حين كان مركز مكافحة الكوارث في مبنى المستشفى، وكذلك إدارة عمليات الطوارىء في حرب تموز 2006. ولذلك تشكّك المصادر في قدرة المستشفى على الاستمرار وإن لم تقع الحرب.
خضر حسان – المدن