أصدر البنك الدولي أحدث تقاريره عن لبنان والذي تناول فيه آخر التطورات والمستجدات الاقتصادية. التقرير توقع أن يسجّل لبنان نمواً اقتصادياً إيجابياً بنسبة 0.2 في المئة في العام 2023، وهو النمو الأوّل من نوعه منذ خمسة أعوام، بعد أن شهد الاقتصاد اللبناني انكماشاً بنسبة 0.6 في المئة في العام 2022، لكنه توقّع أيضاً بقاء نسبة التضخّم مرتفعة ثلاثة أضعاف عند 231.3 في المئة.
وعزا البنك الدولي هذا النموّ الاقتصادي إلى حركة السياحة والتحويلات المالية الوافدة إلى البلاد وإلى استقرار النشاط الاقتصادي. ومع ذلك، حذّر من أنّ مثل هذه التقديرات الخجولة للنمو تخضع الى درجة عالية لعدم اليقين كما وقد بُنيت على فرضيّة أن يسود الفراغ السياسي حتى أواخر العام الحالي. وفي هذا الاطار، علّق البنك الدولي بأنّ الفراغات التي يعيشها لبنان على أكثر من صعيد (رئاسة الجمهورية، حكومة تصريف أعمال، أداء المجلس النيابي المحدود وحاكم بالانابة لمصرف لبنان) تعوق عملية التقدّم نحو تحقيق خطة شاملة لحل الأزمة. ونتيجة لذلك، كشف البنك الدولي أنّ طول أمد الأزمة من شأنه أن يحدّ من إمكانات النمو في البلاد مع استنزاف رأسمالها المادي والبشري والاجتماعي والمؤسّسي.
وأشار التقرير الى أن احتياطيات مصرف لبنان من العملات الأجنبية تسير في مسار انحداري، بحيث بلغت 8.57 مليارات دولار، بانخفاض قدره 22.4 مليار دولار منذ بداية الأزمة. وفي السياق نفسه دائماً، أظهر البنك الدولي أن لبنان يعتمد أيضاً على بعض التمويل الخارجي المحدود، بما في ذلك حقوق السحب الخاصة التي حصلت عليها الحكومة في العام 2021 من صندوق النقد الدولي لتمويل بعض الواردات الحيوية مثل الأدوية والقمح. ولفت إلى أنّ لبنان كان من أكثر الدول التي شهدت أعلى معدلات تضخم في أسعار المواد الغذائية في الفصل الأول من العام 2023 (نسبة التضخم الاسمي في أسعار المواد الغذائية 350 في المئة)، وهو الأمر الذي أدى إلى ارتفاع حاد في مستويات الفقر بحيث أشارت دراسة حديثة أجريت مؤخّراً الى أن ثلاث من كل خمس أسر تعتبر نفسها فقيرة أو فقيرة جداً.
من ناحية أخرى، أفاد البنك الدولي بأنّ إنكماش الناتج المحلي الاجمالي اللبناني بنسبة 0.6 في المئة في العام 2022، يُعتبر أفضل من التوقّعات السابقة التي أشارت إلى إنكماش أكبر بنسبة 2.6 في المئة. وكان هذا الانكماش المنخفض مدعوماً بنشاط قطاع السياحة وبحركة التحويلات القوية وهو ما عزز الاستهلاك المحلي. وفي موازاة ذلك، سلّط التقرير الضوء على تدهور المالية العامّة في العام 2022، مع تنامي الانفاق الحكومي بسبب تغطية إرتفاع التقديمات الاجتماعية والتحويلات إلى مؤسسة كهرباء لبنان ودعم القمح وانخفاض الايرادات الحكومية من 13.1 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي في العام 2020 إلى 6.1 في المئة في العام 2022 (من المعدلات الأدنى عالميّاً). وبناءً عليه، بلغ العجز المالي 2.9 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي مقارنة بفائض مالي قدره 1.0 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي في العام 2021.
وفي هذا الصدد، أوضح البنك الدولي أنّ موقف حاكم مصرف لبنان بالانابة القاضي بعدم تمويل عجز الموازنة في ظل غياب أي إطار قانوني، مقترناً بجهود الحكومة لزيادة ايراداتها، سوف يؤديان إلى انخفاض في العجز الأوّلي والمالي في العام 2023. وأضاف: “انّ سعر الصرف إستقرّ إلى حد ما في السوق الموازية عند حوالي 90 ألف ليرة لبنانية للدولار الواحد، وذلك بفضل تدخلات مصرف لبنان”، غير أنّه حذّر من أن هذه التدخلات لن تكون مستدامة بسبب استنزاف احتياطيات “المركزي” من العملات الأجنبية. كما أشار التقرير إلى أنّ مستوى التضخّم بقي مرتفعاً في العام 2022 (171.2 في المئة) وشهر تموز 2023 (251.5 في المئة)، وهو يعتبر من المعدّلات الأعلى في العالم.
وفي الختام، تمّ الكشف عن أنّ العجز في الميزان الجاري قد إرتفع بصورة كبيرو ليبلغ 32.7 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي في العام 2022 نتيجة ارتفاع الواردات إلى مستويات ما قبل الأزمة والبالغة 19 مليار دولار، في حين تراجعت الصادرات. لكن البنك الدولي توقّع أن يتقلّص هذا العجز إلى 12.8 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي في العام 2023 نتيجة لانكماش متوقّع في واردات السلع والخدمات.
من جهة ثانية، كان صندوق النقد الدولي قد أطلق تقريره السنوي حول آفاق الاقتصاد العالمي، وتوقّع فيه استقرار النمو الاقتصادي للبنان في العام 2022، بعد انكماش بلغ 25.9 في المئة في العام 2020 و10.0 في المئة في العام 2021. غير أنّ الصندوق لم يقدّم أي تقديرات للنمو الاقتصادي في لبنان بعد العام 2022، مشيراً إلى الدرجة العالية من عدم اليقين المحيطة بآفاق مستقبل الاقتصاد اللبناني.
حتى الساعة، لا يزال الاقتصاد اللبناني يسير في نفق مظلم حيث تتقاذفه أمواج الأزمة العاتية، وتُعرقل مسار نموّه الانهيارات الاقتصادية والمالية والنقدية وتُغذّيه الخلافات والانقسامات السياسية. كما أنّ غياب الاصلاحات الهيكلية واستمرار سيطرة الشغور على كرسي رئاسة الجمهورية وانعدام الثقة وهيمنة حالة اللااستقرار، عوائق تسهم جميعها في فرملة عجلة النمو واستقراره، ليبقى الاقتصاد رهينة شبح الفراغ والفساد السياسي بكل امتداداته وتشعباته.
سوليكا علاء الدين – لبنان الكبير