هيثم زعيتر
تُشكّل مسيرة الراحل الحاج أحمد إبراهيم عجمي (92 عاماً)، مدرسةً مُتكاملة، مُتعدّدة المحطّات والظروف، استطاع خلالها الشاب الجنوبي اليافع، أنْ يحفر في الصخر، ويغرس الأرض، ويُولي وجهه شطر الاغتراب نحو القارة السمراء، مُتحمّلاً لهيب شمسها الحارّة.
في كل المحطات، كان الجنوب هاجسه، ومُبتغاه، واضعاً نصب عينيه، مُقاومة الاحتلال الإسرائيلي للأرض، وإهمال الدولة لأبنائها ومناطقهم، والتصدّي للإقطاع السياسي.
تعرفتُ إلى الحاج أحمد عجمي نهاية ثمانينيات القرن الماضي، قبل دخوله إلى المجلس النيابي في الانتخابات النيابية، التي جرت يوم الأحد في 6 أيلول/سبتمبر 1992، وفوزه عن أحد المقاعد الشيعية الأربعة في قضاء صور، ضمن “لائحة التحرير”، التي شكّلها الرئيس نبيه بري، وفازت بالانتخابات، لينضم إلى “كتلة التحرير والتنمية”، لكنّه عزف عن الترشّح للانتخابات، التي جرت يوم الأحد في 8 أيلول/سبتمبر 1996.
مرّت معرفتي بالحاج أحمد بثلاث مراحل مُختلفة: قبل النيابة، خلالها، وبعدها، لكنه لم يتغيّر في أي منها، فبقي كما عرفته، وواكبته خلال أكثر من 3 عقود ونيف من الزمن، عاملني خلالها كأحدٍ أبنائه، وبادلته، ومازلت حمه الله، أبادله شعوراً بمثابة الأُبوّة والأُخوّة.
ابن العائلة الجنوبية الكادحة من بلدة العباسية – قضاء صور، تربى في بيتٍ مُفعم بالإيمان والتقوى، واستمرَّ ذلك طوال مسيرته، من مدرسة البلدة مع الشيخ موسى عز الدين، ثم “الكلية الجعفرية” في صور مع الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين، طالباً وأستاذاً وناظراً، قبل أنْ يُغادر إلى إفريقيا ويكدُّ كدّاً، ويحفر في صحراء البلاد السوداء مع أهلها الطيبين، فكان في طليعة المُغتربين الذين اضطلعوا بدورٍ فاعل في إنماء لبنان، ورفده في أصعب الظروف وأحلكها، مُؤكداً أنّ المُغتربين اللبنانيين كنز لبنان الذي يدعم الاقتصاد في وطنهم.
عاد ليستثمر في بلده، ويُطلِق المشاريع، رغم أنّ أصحاب رؤوس الأموال والخبرات، بدأوا بمُغادرة البلاد مع الحرب العبثية في العام 1975، لكنه بقي يُناضل على طريقته، وفي مجالاتٍ شتى.
تعرّف إلى الإمام السيد موسى الصدر، وكان في الحلقة الضيّقة المُقرّبة جداً من سماحته، وساهم مع الخيّرين في دعم مسيرته بعلاقاتهم وإمكاناتهم المُتعدّدة.
أحبَّ عمل الخير، فساهم في بناء المساجد والحُسينيات والكنائس، دور الأيتام والمدارس، إضافة إلى العديد من المشاريع الخيرية، وقدّم إلى “جمعية أمل المحرومين”، قُطعتي أرض في الرشيدية بلغت مساحتها 30 دونماً، وفي ديركيفا بلغت مساحتها 176 دونماً.
تألّم الحاج أحمد عجمي كثيراً، وهو يُشاهد الدمار الذي حلّ ببلدته العباسية، جرّاء الغزو الإسرائيلي في آذار/مارس 1978، فأعاد بناء المسجد والمدرسة على نفقته الخاصة.
كان في صلب العمل المُقاوم، خاصةً بعد الغزو الإسرائيلي، واحتلال الجنوب اللبناني في حزيران/يونيو 1982، فقام بنقل الأسلحة إلى المُقاومين من بيروت إلى الجنوب، مُخبّئاً إياها داخل سيارته.
كما كانت دارته في العباسية والمُغر المُحيطة بها، مكاناً لإيواء المُقاومين، مع تأمين المأكل والمشرب، وحتى وسائل الاتصال عبر “الهاتف الهوائي” على رقمٍ خاص يمتلكه في بيروت، في وقتٍ كانت الاتصالات الهاتفية شبه مُستحيلة، وهو ما تحدّث عنه الشهيد القائد محمد سعد بالإشارة إلى “دور الحاج أحمد عجمي في العمل المُقاوم، واستخدام دارته ووسيلة الاتصال، التي وفرها للتواصل مع القيادة في بيروت، فضلاً عن إيواء المُقاومين”.
خلال مسيرته في المجلس النيابي، كانت مواقف الحاج أحمد عجمي بارزة، فتمتّع بالجُرأةِ، ولم يُهادن، ودفع ضريبة ذلك لدى تنفيذ بعض الطرقات الجنوبية، ومنها بستان البلح الذي يملكه في بلدة الغازية – قضاء صيدا (الزهراني).
ومن بعض المحطات الهامّة في مسيرة الحاج أحمد عجمي في المجلس النيابي:
– أنّ الرئيس نبيه بري كان يُكلّفه تمثيله في أكثر من مُناسبة في البلدات الجنوبية.
– أنّه من النوّاب القلائل، الذين كانوا يتواجدون في الجنوب بشكلٍ دائم، ولا تقتصر زياراتهم على عطلة نهاية الأسبوع.
– أنّ دائرة علاقاته تجاوزت قضاء صور إلى صيدا والنبطية والمناطق الحدودية المُحرّرة والمُتاخمة لمواقع الاحتلال الإسرائيلي، حيثُ كانت له زياراتٌ دورية للاطلاع على أوضاع الأهالي الصامدين، ومُعاينة آثار الاعتداءات الإسرائيلية المُتكرّرة ضدّهم.
حمل قضية الأسرى والمُعتقلين اللبنانيين والعرب في سجون الاحتلال الإسرائيلي إلى المحافل الدولية، مُطالباً بالإفراج عنهم، يوم كانت قضيّتهم منسيّة.
بادر الحاج أحمد عجمي، بعد تشكيل الرئيس رفيق الحريري لحكومته الأولى في العام 1992، إلى عقد مُصالحة برعاية رئيس المجلس النيابي نبيه بري، بين الرئيس الحريري والرئيس الدكتور سليم الحص، بحضور الرئيس رشيد الصلح، رئيس “الحزب التقدّمي الاشتراكي” آنذاك الوزير وليد جنبلاط، وعددٍ من الوزراء والنوّاب، احتفاءً بالأمير زيد الأطرش (شقيق سلطان باشا الأطرش).
طرح النائب أحمد عجمي مشاريع عدّة في المجلس النيابي، تحوّل اثنان منها إلى قوانين، وهما:
– مشروع قانون للبناء 120م، وعلى طابقين، والذي عُرِفَ باسم “قانون أحمد عجمي”، وهو ما يُتيح البناء لذوي الدخل المحدود.
– مشروع البناء في العقارات غير الممسوحة، وذلك من خلال تأمين تواقيع 75% من مالكي العقار، حيث يحق عندها الحصول على ترخيصٍ للبناء.
هذا فضلاً عن المُشاركة في صدور قانونٍ بتاريخ 4 حزيران/يونيو 1996، قضى بإعفاء 58 قرية من رسوم ضريبتَيْ المياه والكهرباء، والبالغة قيمتها 69.276.000 مليون ليرة لبنانية، استفاد منها أكثر من 34 ألف مسكن، في قرى على خطوط التماس المُواجِهة لمواقع الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب والبقاع الغربي.
وأذكر حادثة هامّة حصلت مع الحاج أحمد عجمي، خلال تفقّده مع “جمعية العمل الشعبي” في صور وعددٍ من فاعليات المنطقة، “معمل إنتاج الكهرباء” على الطاقة الغازية في منطقة شبريحا – العباسية في قضاء صور، حيث زعم مُدير عام وزارة الطاقة – آنذاك – مُهيب عيتاني، بأنّ “أحمد عجمي ومجموعة من المُسلّحين اقتحموا المعمل”.
كاد هذا الأمر أنْ يُؤدي إلى حدوث إشكالٍ بين الرئيسين نبيه بري ورفيق الحريري، قبل أنْ تتّضح حقيقة الأمر، وأنّ ما جرى هو فيام الحاج أحمد عجمي مع مجموعة من “جمعية العمل الشعبي” في صور بتفقّد المعمل، يوم الثلاثاء في 6 آب/أغسطس 1996، وكان قد نُقش على اللوحة الرخامية عند مدخله، أنه تم تدشينه يوم الأربعاء في 17 تموز/يوليو 1996 برعاية رئيس الجمهورية إلياس الهراوي.
اتضح لاحقاً أنّ اتهامات عيتاني كانت هروباً من مسؤولية التلكؤ في عدم إنجاز المشروع بالتاريخ المُحدّد.
دعا عجمي إلى اعتماد قضاء صور كمُحافظة، وعمل على تعزيز قلم النفوس والسجل العدلي في منطقة صور.
أوْلَى الحاج أحمد عجمي قضية المُزارعين، الصيادين وذوي الدخل المحدود، كُل اهتمام وعناية، فاستحصل على مشروع لتربية أسماك القريدس على عقار يملكه في منطقة عدلون – قضاء صيدا، ويتضمّن إنشاء “تعاونية مع الصيادين”، الذين يستفيدون منه، لكن بعض المُتضرّرين من هذا المشروع، حرّضوا ضُدّه، فعزف عن تنفيذه.
اهتم بالقطاع الزراعي لتأمين سُبُل تصدير الإنتاج، وقد طُرِحَ اسمه ليكون وزيراً للزراعة، لكن حصلت تطوّرات، فلم يُكتب لذلك النور!
في الانتخابات النيابية التي جرت يوم الأحد في 8 أيلول/سبتمبر 1996، فضّل الحاج أحمد عجمي ألا يُشارك في لائحة كان يقوم بتأليفها النائبان حبيب صادق والدكتور سعيد الأسعد، بعد خروجهما من “كتلة التحرير النيابية”، مُؤكداً أنّه مُلتزمٌ خط الإمام الصدر.
كان الحاج أحمد عجمي طائراً في غير سرب الكثيرين، لأنّه التزم مُنذ البداية السير على الطريق التي خطّها لنفسه، تلتزم التعاليم الدينية، والتربية الأسرية الصحيحة وإيمانه بالتعايش، ومُناصرة الدفاع عن القضايا الوطنية والقومية.
آمن بالتعايش الإسلامي – المسيحي، وبضرورة أنْ تصدح المآذن بتراتيل الأذان على وقع أجراس الكنائس، وأهمية التكامل بين لبنان المُقيم والمُغترب.
وأوْلَى كُلَّ اهتمام للقضية الفلسطينية، التي ناضل من أجلها في مجالات شتى، واحتضن أهلها كأخوةٍ له، وكان في طليعة النوّاب الذين دخلوا إلى المُخيّمات الفلسطينية، وتحديداً مُخيّمات: الرشيدية، برج الشمالي وعين الحلوة.
أوْلَى اهتماماً بقضايا الاستشفاء والتربية والتعليم. كما كان للشعر والأدب اهتمام خاص، فبقي داعماً للجمعيات التي تُعنى بهذا المجال، مُواكباً للديوانيات والأُمسيات التي تُعقد، والتي استضاف في دارته العديد منها، فبقي يلتقي في ديوانه المُثقّفين بشكلٍ دائم.
خصّص قاعةً في دارته، حملت اسم “قاعة الإمام زين العابدين”، كانت منبراً لإحياء عاشوراء، بمُشاركة رجال دين مُسلمين ومسيحيين من مُختلف الطوائف، تأكيداً للتآخي بين الرسالات السماوية ولتكون منبراً للحوار.
أسّس “المركز الثقافي العاملي”، إيماناً بوجوب نشر الثقافة وتعزيز دورها، ودعا إلى مُكافحة الفساد ومُحاسبة المُفسدين.
الحاج أحمد عجمي، نموذجٌ يمتازُ بدماثة خلقه، علمه، ثقافته، سعة اطلاعه، صفاء ذهنه، أناقته، وطيب مُحيّاه وملقاه، حكمته وشهامته، مع تواضعه وكرمه، إضافة إلى عطائه وتفانيه من أجل الآخرين، وإيمانه بالله عز وجل، والرسول الأكرم وآل بيته، والتعايش بين العائلات الروحية في لبنان.
أحبَّ الصيد، فكان صيّاداً ماهراً، وعشق الأرض التي زرعها، وألّف العديد من الكتب وكتب الكثير من المقالات، وكانت له إطلالاتٌ دائمة عبر صفحات صحيفة “اللـواء”، خاصة “لـواء صيدا والجنوب”.
حفظ القرآن، وكان جليسه في قيام الليل والفجر، والصلوات، ساجداً وقائماً، مُلتزماً بتعاليم الدين السمحاء، حجَّ بيت الله الحرام، وزاره مُعتمراً، كما زار المقامات والعتبات المُقدّسة مرّاتٍ عدّة.
يشعُ بريق الإيمان من عينيهِ، فامتاز بأنّه قارئ نهم، لا يغضب إلا لربّه ودينه وشرفه وكرامته وسيادة وطنه.
مُستمع أصيل، يتحدّثُ بهدوءٍ، حاضر الذهن، فاضلٌ، وكلامه ينفذ إلى العقل والقلب، مُستمدّاً حكمه من تجاربه وتجارب الآخرين وواقع الحياة.
حرص على تعميم ثقافة قبول الآخر كما هو، وليس كما تريده أنتَ على صورتك ومثالك، انطلاقاً من الاحترام المُتبادل، وتفهّم هذا التباين، وبالتالي قبول هذا الفرق، والتعامل معه بروح الأُخوّة.
آمنً بأنّ الدين لله سبحانه وتعالى والوطن للجميع، مُتساوين فيه بالحقوق والواجبات، فإذا لم يُخلق الإنسان مثلك في الدين أو المذهب، فهو أخٌ لك في الإنسانية والوطنية.
هذه بنودٌ تُؤكد العدالة الاجتماعية والعيش الطبيعي، وأنّ لبنان أكثر وطن يُمكن أنْ يُكرّس ذلك، فهو رسالة لا تحتمل التطرّف من أيّ جهةٍ كانت، لأنّه يبقى العمل الطيب.
دعا باستمرارٍ إلى مُكافحة الفساد، الذي وقع لبنان ضحيّةٍ له، فيما ساسة البلد مشغولون بتقاذف الخطابات والمُهاترات، وهناك مَنْ يدعم المصالح الشخصية، ما يزيدُ من الإعاقات، ويُؤدّي إلى الإهمال وهجرة الشباب، والمُواطن مغلوبٌ على أمره.
حثَّ باستمرارٍ المسؤولين للبحث عن حلولٍ، من خلال إقامة المشاريع التطويرية، وتشجيع مشاريع القطاع الخاص، والعمل على مُعالجة الفساد ومُحاسبة المُفسدين.
لم يسعفه قلبه على تحمّل ما حلَّ بوطنه لبنان، ولا المجازر التي يُواصل العدو الإسرائيلي ارتكابها بحق أبناء فلسطين.
لكن، كان كُلّه أمل بأنَّ الوعد الرباني بالنصر والتحرير قادم لا محالة، حيثُ حقّق مُعظم أمنياته، وبقيت أمنية وحيدة، وهي أنْ يُصلّي في المسجد الأقصى مُحرّراً من رجس الاحتلال الإسرائيلي.
جرى توثيق حياة الحاج أحمد عجمي في فيلمٍ بعنوان “ذاكرة الغد”، عُرِضَ في احتفالٍ أُقيم خلال شهر أيلول/سبتمبر 2018 في العباسية، من إخراج محمد النابلسي وإنتاج محمد أحمد عجمي.
يرحل الحاج أحمد عجمي، وقد ترك ما أوصى به الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، صدقةً جارية بعمل خيِّر يُعطي ثماره، وعلمٍ يُنتفع به، من كُتبٍ قام بإصدارها أو شجع على إبصارها النور، وولدٍ صالحٍ، عبر ذريّةٍ صالحة، من العائلة الصغيرة وأصدقاء ومُحبّين يعملون وفق ما سار عليه.
ووري جثمانه الثرى في جبانة بلدة العباسية، التي كانت له فيها أيادٍ بيضاء، تشهد على عمله الخيّر.
هناك يغفو في جبل أبي ذر الغفاري، الذي اختار التيمّن به اسم “أبو ذر الجنوبي”، ليُولي وجه نحو فلسطين، الذي باركها الله سبحانه وتعالى وما حولها.
أخبار عاجلة