إنّ ارتفاع مستوى المواجهات بين «حزب الله» والجيش الاسرائيلي أعطى الانطباع بأنّ الاوضاع باتت مهيئة للانزلاق في اتجاه الحرب المفتوحة، بعدما انحصرت منذ الثامن من تشرين الأول الماضي في مناطق محدودة من الجنوب ووفق وتيرة نارية محددة.
لكنّ القراءة الباردة للمواجهات الحامية الحاصلة تؤشر الى أنّ الظروف الفعلية لدخول لبنان في الحرب المفتوحة، غير متوافرة. فإيران لا تريد الانزلاق في فخ توسيع دائرة الحرب لتصبح إقليمية، ولا «حزب الله» يريد الدخول في الحرب المفتوحة وفق المعطيات الحالية، والولايات المتحدة الاميركية ترفض توسيع إطار العنف في الشرق الاوسط، لا بل فهي بدأت تبحث عن المخارج المطلوبة لتثبيت وقف إطلاق النار في غزة. وهي أبلغت الى الحكومة الإسرائيلية أكثر من مرة وبأكثر من طريقة أنها ترفض زَج لبنان في الحرب.
ولكن هل يكفي ذلك لاستبعاد الحرب والاطمئنان كلياً؟ بالتأكيد لا، لأنّ الفريق المتحمّس داخل اسرائيل لتوجيه ضربة قوية للبنان ما يزال يعمل في هذا الاتجاه. وهذا الفريق يتألف من وزير الدفاع وقادة الجيش الكبار ومسؤولين أمنيين اضافة الى عدد من المتطرفين. ويعتقد هؤلاء أنّ هذه الفرصة قد لا تتكرر، وأن من السهل استدراج الجيش الاميركي الموجود في المنطقة بأحدث تعزيزاته العسكرية وفي ظرف أميركي داخلي ملائم بسبب الدخول في السنة الانتخابية وسط نزاعات اميركية عنيفة ومزايدات قد تستفيد منها اسرائيل.
لكن معظم الطاقم السياسي الاسرائيلي الحاكم يدرك جيداً ما معنى وجود قرار أميركي برفض توسيع دائرة الحرب. ولكن الادارة الاميركية التي تخشى دائماً من تهوّر جزء من القيادة العسكرية الاسرائيلية، لا تترك مناسبة إلا وتكرر فيها تحذيرها كمثل الاتصال الذي أجراه وزير الدفاع الاميركي بنظيره الاسرائيلي يوآف غالانت وخَصّصه للتحذير من الانزلاق الى تصعيد واسع في لبنان، والأهم الاعلان عن هذا الاتصال في وسائل الاعلام، وهو ما يعني التزاماً رسمياً اميركياً معلناً. وغالانت يفهم معنى ذلك جيدا. ولو أنه سجّل بعد ساعات على هذا الاتصال إعلان رئيس اركان الجيش الاسرائيلي عن مصادقته على خطط تتعلق بلبنان، وتم تفسير ذلك في إطار «التمريك» الاسرائيلي وأنه من الصعب ترجمته على ارض التنفيذ.
ويبقى التركيز على الحرب الدائرة في غزة وأفقها الزمني وسط تحول واضح في المزاج الدولي.
وكان لافتاً أن تتعمّد الادارة الاميركية إظهار اتساع رقعة الإعتراضات على استمرار الحرب الوحشية، حتى في صفوف الموظفين المهمين مثل طاقم وزارة الخارجية. فثمة إبراز لشعور يسود دوائر وزارة الخارجية الاميركية بأن الرد العسكري الاسرائيلي مبالغ فيه الى حد الافراط، وأن على واشنطن كبح هجوم اسرائيل أو الاعلان بكل بساطة عن تخلّيها عن دورها ونفوذها. الخبراء في السياسة الاميركية وضعوا ذلك في إطار تحضير الاجواء لدفع اسرائيل للقبول بوقف إطلاق النار تمهيداً للشروع في المفاوضات لإنتاج تسوية سلمية. وهذا بالطبع لن يعجب نتنياهو الباحث عن إطالة الحرب لإنقاذ نفسه. وقد يكون هذا بالضبط ما يسعى إليه البيت الأبيض الذي يريد رؤية السقوط المدوي لنتنياهو بعدما عمل على إنقاذ دور إسرائيل كدولة إثر النتائج الكارثية لعملية «طوفان الأقصى». ولفتَ قول الرئيس الجديد لأركان الجيش الاميركي الجنرال شارلز براون أنه متخوّف من تزايد عدد الضحايا المدنيين، وهو ما سيولّد مستقبلا مزيدا من مقاتلي حركة «حماس». وفي الوقت نفسه إعترفت مساعدة وزير الخارجية الاميركية باربرة ليف خلال جلسة مع لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الاسبوع الماضي بأنّ أرقام الضحايا في غزة قد تكون أعلى مما يُعلن. والأهم نتائج آخر استطلاعات الرأي الأميركية والتي أشارت الى انخفاض داعمي الحرب الاسرائيلية من 41% منتصف الشهر الماضي الى 32% الآن كذلك تأييد 70% لوقف إطلاق النار.
كل ذلك يؤشّر بالضغط على حكومة نتنياهو للانتقال من مرحلة الحرب الى مرحلة التسويات، خصوصاً أنّه تلقّى صفعة مدوية مع عدم العثور على أي أدلة عسكرية تخص «حماس» بعد دخول الجيش الاسرائيلي الى مجمّع الشفاء في غزة.
ولكن نتنياهو ما يزال يرسل الاشارات السلبية، فهو أعلن رفضه لعودة السلطة الفلسطينية الى غزة. في المقابل فإنّ واشنطن التي تتمسّك بـ»حل الدولتين» تُبدي خشيتها من خلق فراغ في حال استمرار رفض نتنياهو، ستعمل القوى المتطرفة على مَلئه بسرعة.
ولذلك، لم يأت من عبث كلام وزير الخارجية الاسرائيلي حول استمرار الحرب لأسبوعين. فالحد الزمني الفاصل للحرب يجب أن يسبق الانتخابات المصرية.
ولفت في هذا الاطار بدء التحضيرات لإقامة مستشفيات ميدانية عند الحدود بين قطاع غزة ومصر، وتتولاها قطر وتركيا تحت إشراف مصر والأمم المتحدة. وغالب الظن أنّ هذه المستشفيات ستعمل لوقت طويل، وقد تصبح لاحقاً مستشفيات دائمة.
والرئيس الأميركي الذي سيلتقي نظيره الصيني للمرة الثانية خلال ولايته سيبحث معه في عدد من الملفات الخلافية وأيضاً مستقبل الوضع في الشرق الاوسط، وعلى أساس إبقاء التنافس العالمي تحت السيطرة، أو بتعبير أوضح، تنظيم الخلافات الدولية.
في كل الحالات أظهَرت حرب غزة أنه على رغم من أنّ الصين قوة اقتصادية كبرى ومزاحمة للقوة الاقتصادية الاميركية، إلّا انها ما تزال تفتقر الى الترجمة السياسية من الزاوية الجيوسياسية، حيث ما تزال بكين تخشى من المخاطرة بمصالحها الاقتصادية حول العالم.
ولذلك بقيت واشنطن هي المرجع الدولي الوحيد خلال حرب غزة وسط انكفاء بكين وموسكو على حد سواء. وفي الوقت عينه استمرّت واشنطن متمسكة بإبقاء الحرب محصورة في غزة وبإبقاء سقف التوتر منخفضاً على مستوى المنطقة. ولذلك عملت خطوط تواصلها مع طهران بنشاط. ولأنّ الأفق هو للتسويات شاركَ الرئيس الإيراني في مؤتمر الرياض، والتقى ولي العهد السعودي في أجواء إيجابية.
وجاء معبّراً كلام وزير الخارجية الايراني السابق محمد جواد ظريف والمعروف عنه حنكته وبراعته. فهو اعتبر أنّ الطريق الافضل للدفاع عن الشعب الفلسطيني هو بمنع الغرب من تعريفه كذراع إيرانية، وبالتصدي لمحاولات اسرائيل لإشراك ايران في المعركة. وكأنّ ظريف أراد أن يقول بوجوب تخفيف التأثير الايراني داخل الساحة الفلسطينية، وعدم رفع مستوى التصعيد الاقليمي. وهذا يتلاقى مع رفض البيت الابيض القيام بردّ أكثر عدوانية على الهجمات التي تستهدف القواعد الأميركية في سوريا والعراق. وهو ما يعزّز الاقتناع بأنّ الابواب باتت مفتوحة لإنجاز تسوية إقليمية عريضة ستستغرق مفاوضاتها وقتاً طويلاً بلا شك. والأهم أن لبنان سيستفيد من هذا المناخ الجديد عندما يحين وقته وليس قبل ذلك
وكان لافتاً الاستطلاع الذي نفذته مؤسسة «الباروميتر العربي» الأميركية على الساحة الفلسطينية والذي شمل الضفة الغربية (790 شخصاً) وغزة (399 شخصاً)، وتم تنفيذه بين 28 ايلول و6 تشرين الاول الماضي، اي أنه انتهى قبل يوم واحد فقط من حصول «طوفان الأقصى».
وفي هذا الاستطلاع جاءت النتائج مثيرة، إذ تبيّن أنّ 44% من الغزاويين لا يثقون بحكومة «حماس» في القطاع، و23% لا يمنحونها كثيراً من الثقة. كذلك فإن «حماس» حازت على 28% فقط من تأييد الفلسطينيين في الضفة والقطاع وحركة «فتح» على 31% و»الجهاد الاسلامي» على 7%، فيما امتنعَ 15% عن اختيار أحد.
وتقول المؤسسة انه في استطلاع 2021 كانت نسبة مؤيدي «حماس» تبلغ 34%، لكن تبيّن أن مؤيديها في الاستطلاع الحالي كان اقوى في فئة الشباب ما دون الثلاثين سنة حيث بلغت النسبة 33%، أمّا الفئة العمرية التي تجاوزت الثلاثين فجاء تأييدها لحماس بنسبة 23% فقط.
ولا بد من أن تكون هذه الارقام اختلفت الآن بعد اندلاع الحرب. وهذا منطقي وطبيعي.
لكن اللافت أنه تبيّن في الاستطلاع أنّ 73% يؤيدون التسوية السلمية في مقابل 20% يفضّلون الحل العسكري. لكن تأييد خيار الدولتين جاء أعلى في القطاع منه في الضفة، فنال في الضفة 49% أما في غزة فنال 54%. وتأييد التطبيع العربي مع اسرائيل نال في الضفة 5% فقط في مقابل 10% في القطاع. وأيضا 69% من الفلسطينيين لا يفكرون في مغادرة أرضهم، وهي نسبة أعلى من العراق ولبنان والأردن والمغرب والسودان وتونس.
ربما في بعض هذه الارقام أجوبة بليغة لأسئلة كثيرة تبدو غامضة للوهلة الاولى.
جوني منيّر – الجمهورية