قد يكون القناع قد سقط عن غالبية الوسائل الإعلامية الغربية، بعنصريّتها ونفاقها وإمعانها في تأييد حرب الإبادة الإسرائيلية في حق الفلسطينيين المستمرّة منذ السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي. لكن حتّى هذه المؤسسة أوصلتها الأكاذيب الصهيونية التي تخطّت كل حدود العقل إلى مكان شعرت فيه بأنّه لم يعد بإمكانها مجاراتها وتبنّي سرديّتها، حفظاً لماء الوجه ربّما! هذا ما حصل في الأيّام القليلة الماضية إبّان غزو قوّات الاحتلال الهمجي لـ «مجمّع الشفاء الطبي» والاعتداء على النازحين الذين لاذوا به هرباً من الغارات الإسرائيلية الوحشية المتركّزة على المدنيين والأطفال. رافقت بعض الوسائل الإعلامية الأجنبية القوّات الإسرائيلية في هذه العملية، ولاحظت أنّ ما رأته كان مخالفاً تماماً لما نشره وروّج له العدوّ، وخصوصاً لناحية اعتبار المكان المركز الرئيس و«القلب النابض» لعمليات حركة «حماس» العسكرية.
«هيئة الإذاعة البريطانية» المعروفة بانحيازها للصهاينة إلى حدّ طرد موظّفين أشهروا تأييدهم لفلسطين، فضلاً عن نشر تقرير حول بناء «حماس» للأنفاق تحت المدارس والمستشفيات قبل ساعات من المجزرة الإسرائيلية في «مستشفى المعمداني» ووصف المتظاهرين في لندن بـ «الموالين لحماس»، أقدمت قبل أيّام على خطوة مستغربة بالنسبة إلى كثيرين. أفرجت BBC عن تقرير شكّكت فيه بالمقاطع المصوّرة التي نشرتها قوّات الاحتلال من «الشفاء». فيديوات سرعان ما بان زيفها، واستحالت مادةً للسخرية والتندّر بين روّاد مواقع التواصل الاجتماعي. قارن التقرير بين المقاطع التي صوّرها فريق الشبكة البريطانية من داخل المستشفى وتلك التي نشرها الاحتلال، ليستنتج أنّ تعديلاً أجري على المادة البصرية، مثل تبديل أسلحة بأخرى، ناهيك بأنّ العدوّ «قطّع» مَشاهده ربّما لإخفاء أمور معيّنة. ولئن حرصت القناة على نقل ردود الأفعال الإسرائيلية على شكوكها، إلّا أنّ لغتها كانت مغايرة تماماً عن السابق والمعهود. ولو أنّها كانت دون المستوى المطلوب، لكنّ ما حدث يشكّل تطوّراً في أداء القناة لا بد من التوقّف عنده.
من ناحيتها، سلكت شبكة «سي. أن. أن» الأميركية الدرب نفسه، ونشرت تقريراً يشكّك بالمزاعم الصهيونية. وأقرّت أيضاً بأنّه من المحتمل أن تكون القوات الإسرائيلية قد وضعت أو أعادت ترتيب الأسلحة في «الشفاء» قبل وصول الصحافيّين الأجانب. كما أشارت إلى الوقت الظاهر على ساعة المتحدّث باسم قوات الاحتلال جوناثان كونريكوس، المتعارض مع ما قاله مراسل شبكة «فوكس نيوز» حول أنّ التصوير حدث في «منتصف الليل». بدورها، أوردت «نيويورك تايمز» أنّ جنود الاحتلال منعوا الصحافيّين من التجوّل في المستشفى. الصحيفة الأميركية التي لا تنفصل عن آلة الدعاية الإسرائيلية، استغرقها الأمر سبعة أسابيع لتسليط الضوء على الإبادة الجماعية التي يرتكبها الإسرائيليون بحق أطفال غزّة، وتنبّهت إلى أنّ عددهم تجاوز السبعة آلاف. هكذا، تصدّرت الصفحة الأولى لعددها الصادر أوّل من أمس الأحد صورة للطفل خالد جودة (9 سنوات) يبكي شقيقته الصغرى الشهر الماضي في دير البلح بعد فقدان 68 من أفراد عائلته. أما العنوان الرئيسي الذي اختارته فهو: «غزة المشتعلة أصبحت مقبرة للأطفال». لكن تجدر الإشارة إلى أنّ قتل الآلاف جرّاء القصف وُضع في إطار «ردّ إسرائيل على «حماس»».
ما سبق لا يعني انتقال الوسائل الإعلامية الغربية المهيمنة من مقلب إلى آخر، فملّاكها معروفون، كما انتماؤهم الصهيوني الذي يحوّلها إلى أدوات للبروباغندا الحربية الصهيونية، وهي لا تزال تفتح هواءها لخرافات وخزعبلات من توقيع الكيان. مع ذلك، إنّه مؤشّر مهمّ على فشل آلة الدعاية الإسرائيلية رغم المليارات المصروفة وانبطاح وسائل إعلامية كبرى أمامها، في مواجهة مجموعة من الناس على السوشال ميديا لا يملكون سوى صوتهم والصورة الحقيقية لجرائم الاحتلال. لذلك، هي أيضاً محاولة من هذه الوسائل لحفظ ماء وجهها بعدما فقدت ثقة عدد ضخم من مشاهديها. وربّما ترمي إلى «مساكنة» الصوت المؤيّد لفلسطين على طريقة الإعلامي البريطاني الصهويني بيرس مورغان والملياردير الجنوب أفريقي إيلون ماسك، ريثما تتمكّن من العودة إلى قواعدها «سالمة» واستئناف أعمالها الروتينية.
نزار نمر
Follow Us: