ترافقَ استمرار انهيار سعر صرف الليرة مع تكديس الأوراق النقدية من مختلف فئاتها، بيد الجمهور. وبات البحث عن حلول لتخفيف حجمها، ملحّاً، وسط غياب احتمالات الإصلاح وتعزيز قيمة الليرة وخفض الطلب على الدولار من جهة، وتقليص حجم الاقتصاد النقدي وإعادة تنشيط التحويلات والتبادل عبر المصارف من جهة أخرى. وللتخفيف من حجم الأوراق المكدّسة، يتّجه مصرف لبنان إلى إصدار فئات جديدة من الليرة، بعد إقرار مجلس النواب للصيغة التشريعية لهذا الإصدار. الأمر الذي يعيد طرح النقاش حول جدوى طرح فئات نقدية جديدة وانعكاساتها على سعر الليرة والاقتصاد. وأمام جمود الحالة السياسية والاقتصادية والنقدية، يبقى الطرح في سياق تعزيز الأمر الواقع، لا تفكيكه ومواجهة تداعياته.
موعد الحسم القانوني غير معروف
يقف مشروع قانون طباعة فئات جديدة من الليرة عند أعتاب الجمعية العمومية لمجلس النواب التي لم تحدد بعد موعد إدراج المشروع على جدول أعمال الجلسة المقبلة للتصويت عليه. لكن المحسوم هو طرح طباعة أوراق الـ100 ألف ليرة والـ500 ألف ليرة والمليون ليرة، فيما يُدرَس قرار طباعة ورقة الـ5 ملايين ليرة. وتشير مصادر مصرفية إلى أن هذه الفكرة ضرورية اليوم لمواكبة الاستعمال المفرط للأوراق النقدية في السوق. وفي ظل الحاجة لكميات كبيرة من الليرة لسداد سعر السلع والخدمات، يأتي طرح تكبير حجم الفئات النقدية للتخفيف من الحاجة إلى حمل الكميات. وتنفي المصادر في حديث لـ”المدن” انعكاس هذه الطباعة على سعر صرف الليرة، وتؤكّد أنها لن تخفّض قيمتها أو ترفع بالمقابل سعر صرف الدولار، وهو أكثر ما يخشاه ويسأل عنه الجمهور.
وتقول المصادر أن طباعة فئات كبيرة ليس حدثاً مستجداً أو محصوراً بالأزمة، فهو طُرِحَ سابقاً داخل مصرف لبنان في العام 2010، بعد النشاط الكبير الذي شهده الاقتصاد اللبناني بعد الأزمة المالية التي شهدها العالم في العام 2008، والتي أضرَّت باقتصادات الدول الكبرى وكانت الدول الصغرى بمنأى عنها أو أقل تضرراً. وتشرح المصادر أن الهدف يومها كان مساعدة الناس على حمل كميات أقل من الليرة لأن اقبالهم عليها كان كبيراً في ظل تعزيز قيمتها وزيادة الثقة فيها، وانعكس ذلك من خلال زيادة الودائع المصرفية في العام 2009 بنحو 24 بالمئة. وطُرِحَ يومها طباعة أوراق الـ150 ألف ليرة و250 ألف ليرة و500 ألف ليرة، وكانت الـ150 ألف ليرة تساوي 100 دولار. وتستطرد المصادر أنه طرحت فكرة طباعة ورقة المليون ليرة أيضاً، لكن تم العدول عن الطرح في المجلس المركزي لمصرف لبنان لأن الحد الأدنى للأجور كان يساوي 675 ألف ليرة، ومن غير المحبّذ أن يكون راتب موظّف أدنى من أقل ورقة نقدية، وهي المليون ليرة. لكن الاقتراح عموماً لم يسلك طريقه في مجلس النواب، وجرى صرف النظر عنه في المصرف المركزي.
ضرورة تحديد الأهداف
ينظر خبراء الاقتصاد لقرار طباعة فئات جديدة من الليرة من اتجاهات مختلفة، لكنها تتوحّد في نهاية الأمر عند نقطة الاعتراف بالواقع. ويأخذ رئيس وحدة الدراسات في بنك بيبلوس نسيب غبريل، الطريق الأقصر لتوصيف هذا القرار، معتبراً في حديث لـ”المدن” أنه “تسهيل لأمور الناس والشركات والتعاملات، فالطباعة تسهِّل حمل العملة، لا أكثر”. وينفي غبريل أن تؤدي الطباعة إلى “تضخّم مفرض أو ارتفاع كبير في الأسعار”. وفي النتيجة، هذا القرار هو “اعتراف بالتضخّم وانهيار سعر الليرة”.
بالتوازي، يلتقي الخبير الاقتصادي جاسم عجاقة مع غبريل حول أن هذه الطباعة تعكس الاعتراف بالواقع، لكنه يذهب بعيداً في تحليل منطلقات اتخاذ القرار، ويبدأ من ضرورة التساؤل حول “الهدف من الطباعة”.
قبل الوصول إلى الإجابة، من اللازم القول بأن مصرف لبنان انسحب من السوق وما عاد يتدخّل فيه باستثناء تأمين دفع رواتب موظفي القطاع العام. وهذا بحسب عجاقة يعني بأن “الدولار بات هو الأساس في السوق”. ولذلك إذا كان الهدف هو التخفيف من حمل الأوراق النقدية بالليرة، فلا طائل منه لأن الناس تهرب من الليرة إلى الدولار. وكذلك، تنتفي الضرورة لأن الطباعة تنطوي على كلفة مادية يدفعها المركزي. ويسأل عجاقة عمّا إذا كان هناك “رغبة لدى المركزي في زيادة الكتلة النقدية في السوق، وهنا نكون أمام مشكلة تظهر بوادرها في السوق من خلال إعلان المركزي بخطوته هذه أنه سيخفِّض قيمة عملته. أو أن يكون لدى المركزي توجّه نحو الطباعة لتمويل نفقات الدولة وتمويل عجز الموازنة. وهناك احتمال آخر يتعلّق باجراء أمني احترازي يقوم به المركزي تحسباً لتصعيد عسكري اسرائيلي، ويتمثّل بالحاجة لشراء دولارات من السوق”. وفي جميع الأحوال، يقول عجاقة لـ”المدن”، أن “انسحاب المركزي من السوق يعني أنه ما عاد يمتلك سياسة نقدية وأن الليرة لا تخدم الاقتصاد، فلماذا علينا إجراء تعديل على الأوراق النقدية”. خصوصاً إذا لم يكن الهدف زيادة الكتلة النقدية في السوق.
الخدمة الأكبر للتفكير في تنظيم أو إدارة عملية حمل الأوراق النقدية بكميات كبيرة، هي لاقتصاد الكاش، فالناس تحمل كميات من الليرة، ويفكّر المركزي في تقليص الحاجة لحمل تلك الكميات، وسط العجز عن التفكير في آلية لاستعادة دوره في السوق وضبط سعر الصرف وإعادة الثقة بالليرة ودورها في الاقتصاد، والابتعاد تدريجياً عن الدولرة. علماً أن تحقيق ذلك، لا ينفصل عن ضرورة إعادة الثقة للقطاع المصرفي ليستعيد دوره ويتقلّص بذلك الاقتصاد النقدي فيتراجع الطلب على حمل كميات كبيرة من الأوراق النقدية.
الجوانب الإصلاحية غير واردة في الوقت الراهن، بل على العكس تماماً، فإن التوجّه لطباعة أوراق جديدة تحت مظلة قانونية من مجلس النواب، يعني إدارة الملف النقدي وفق شروط الأزمة، ولا يعني بالضرورة ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة، فلهذا الأمر سياق أكثر تشعّباً.
خضر حسان – المدن
Follow Us: