ربما لا كلمات تفي المتقاعدين حقوقهم، وتشرح مآل الأوضاع الاجتماعية والمالية والإنسانية التي غرقوا بها مع غرق رواتبهم واندثار عائدات تقاعدهم يوم سقطت الليرة والاقتصاد والمصارف.
“في التقاعد يُكرم المرء ولا يُهان” إلا في لبنان حيث وجدت الحكومة الأموال الوافرة لتصحيح رواتب موظفي القطاع العام وهو حق لهم يجدر منحه، لإعادة عجلة إدارة الدولة إلى طبيعتها، لكن في المقابل لم تلتفت إلى الشريحة الأضعف في البنيان الاجتماعي وهم المتقاعدون وأراملهم، ممن بلغوا من العمر عتيّاً، وغالبيتهم من الطبقة الوسطى التي هبطت إلى خط الفقر.
فالإصرار على عدم مساواتهم وفق القانون مع نظرائهم في الخدمة الفعلية يهدّد بتفلّت الشارع بعدما تسارعت الدعوات عبر التواصل الاجتماعي والإعلام، وبدأ الحشد ووضع الأهداف التي تقرر أن تكون أمام المراكز الرئيسة في الدولة ومنازل المسؤولين وأصحاب القرار فيها.
يعرف المتقاعدون جيداً ظروف الدولة، وهم الأكثر حرصاً على الاستقرار الأمني والنقدي، بيد أن مخزون التضحيات لديهم نفد، وما عاد بمقدورهم تقديم أمانهم الاجتماعي والصحي أضحية لدولة تجد آلاف المليارات ساعة تشاء مصالح أتباعها في الإدارة، و”تكسر يدها” لتشحذ أمام حقوق من أبقاها على قيد الحياة.
ولكن مصادرهم تؤكد أن “ما تحاول الحكومة تمريره لا يليق بالمتقاعدين وهم رفضوا رشوتها إعفاءهم من الضرائب والرسوم، ليس لمخالفة مقترحها العدالة الضريبية والمساواة أمام القانون فحسب، بل لأن ما يطلبونه لا يتعدى مع جميع متمماته وفق آخر الإحصاءات 1000 مليار ليرة يمكن للدولة جبايته بسهولة لو تسلّحت بالنيّة وأحسنت إدارة مرافقها”.
وقالت المصادر عينها لـ”النهار”: “سهرنا الليالي وقهرنا شبابنا في الخدمة، قاتلنا، جُرحنا، أُصبنا بإعاقات دائمة، ترمّلت نساؤنا، وتيتّم أطفالنا، ليأتي من لم “يتشرّف” بمذاق الموت مرة ليقول لنا إن بعضاً ممّن لا يعمل، ومعهم من يرتشي، إلى جانب من يقوم بوظيفته في المكاتب المكيّفة، ويقضي العطل والأعياد جميعها مع عائلته، له الحق برواتب إضافية وبدل إنتاجية والعيش الكريم، بالإضافة إلى بدلات النقل. أما عوائل الشهداء والجرحى وذوو الحاجات الخاصة المنسوبة للخدمة والمتقاعدون فينالون فتات راتبَين فقط، لا يصحّحان الخلل القانوني الفاضح في تطبيق قانون التقاعد، الذي يمنح من أفنى عمره وصحته في الخدمة 85% من قيمة آخر راتب تقاضاه”.
لا ينكر المدير العام لوزارة المال جورج معراوي أن “رواتب المتقاعدين لا تكفيهم، إذ لا تتجاوز 200 دولار شهرياً”، وفق ما قال لـ”النهار”. ولكنه وضع المشكلة عند مصرف لبنان “الذي حذّرهم من أن أي تخطٍّ لسقف الألف مليار شهرياً قد يعرّض سعر صرف الدولار لاهتزازات نحن في غنى عنها”. ويخلص للقول إن “الحكومة عالقة بين مطرقة مصرف لبنان وسندان المتقاعدين والإداريين، إذ إن لم ننصف موظفي الإدارة العامة، فإن العمل لن يسير وفق المطلوب لزيادة الإيرادات، وإن تخطّينا سقف المبلغ المحدد من مصرف لبنان قد يصل سعر الصرف إلى مستويات قد لا تُحمد عقباها. علماً بأن سقف المبلغ الذي اقترحه مصرف لبنان كحد أقصى للزيادات لن يكفي للعسكريين والمتقاعدين الذين تُقدّر كلفة الزيادات المقترحة لهم بنحو 1120 مليار ليرة شهرياً”.
تحاول الحكومة إجراء التصحيح للرواتب وتحفيز موظفي الإدارة للعودة إلى أعمالهم لتقديم الخدمات للبنانيين، وفي الوقت عينه تحاول تصحيح أوضاع العسكريين والمتقاعدين. ولكن إذا ساوينا بين ما سنقدمه للإداريين والعكسريين والمتقاعدين فقد نقع في مشكلة كبيرة خصوصاً أن عدد المتقاعدين كبير جداً (نحو 130 ألف متقاعد)، فيما عدد الموظفين الإداريين لا يتجاوز 10 آلاف موظف، علماً بأنه إذا اتفقنا على ما هو مطروح من زيادات ووافق عليها مصرف لبنان، فإن راتب موظف في الفئات الأولى لن يصل إلى أكثر من 750 دولاراً. وأكد أنه لمعالجة المشكلة يجب إعادة النظر في كل رواتب القطاع العام، ونحن في صدد وضع أكثر من سيناريو لترتيب أوضاع القطاع العام. ولكن لا شيء نهائياً حتى اليوم، خصوصاً في ظل تحفّظ مصرف لبنان على زيادة المبلغ المخصص للزيادات.
إلى ذلك، يبدو أن المعنيين في مصرف لبنان يعيدون النظر في رقم الألف مليار ليرة، وطلبوا من الحكومة وضع سقف للزيادات والعطاءات لكل القطاع العام بكلفة لا تتجاوز 1600 مليار ليرة حداً أقصى، وإلا فثمة خطر على سعر الصرف الذي سيضر بكل مفاصل الاقتصاد اللبناني. وتالياً فإن ما يُدرس حالياً هو رفع الزيادة قليلاً للمتقاعدين مقابل خفض كلفة الزيادة للإداريين من خلال خفض عدد الأيام التي سيفيدون منها ببدل الإنتاج، بدل أن تكون 22 يوماً شهرياً ستُخفض إلى نحو 16 يوماً، مع الأخذ في الاعتبار أن الموظف الإداري يدفع ضريبة تصل إلى 25% على ما سيتقاضاه فيما المتقاعد معفىً من تسديد الضرائب.
من ضمن الأفكار التي طُرحت في الاجتماعات مع المتقاعدين، هو أنه إذا تعذّر تأمين رواتب إضافية لهم أكثر من شهرين، تُخصّص لهم سلسلة من الإعفاءات الضريبية والخدماتية (هاتف، كهرباء، مياه) ضمن الموازنة، توازي الزيادة التي يطالبون منها. تألّفت لجنة من المتقاعدين لدرس الموضوع وتقديم اقتراح في هذا الصدد، كما جرى تأليف لجنة من وزارة المال برئاسة المدير العام للمالية جورج معراوي للنظر في الإعفاءات التي يمكن لحظها للمتقاعدين وتضمينها في الموازنة. وهذا الاقتراح قاده رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الأسمر الذي رأى أن “المتقاعدين هم الحلقة الأضعف في القطاع العام، ولا ناقة لهم ولا جمل خصوصاً مع محدودية مداخيلهم”. ولكن العسكريين المتقاعدين رفضوا “أي اقتراح لإعفائهم من بعض الضرائب والرسوم مقابل خفض زيادة الأجور على رواتبهم، فهؤلاء هم من مدرسة المناقبية والانضباط والمواطنة والتزام الدستور والقانون، وكرامتهم تأبى عليهم إلا أن يكونوا متساوين مع جميع المواطنين في الحقوق والواجبات”.
وإلى اعتراض المتقاعدين على عدم مساواتهم مع العسكريين في الخدمة، خصوصاً أن راتب المتقاعد بالكاد يساوي 15% من راتب الموظف في الخدمة، فيما كان يساوي 85% منه، لم يخفِ الأسمر أنه كان ثمة رفض من العسكريين للزيادات المقترحة لهم (رواتب 3 أشهر)، لكونها تشكل غبناً لهم. وكان ثمة اقتراحات إعادة درس الموضوع برمّته إن كان للمتقاعدين أو للموجودين في الخدمة.
ما طُرح سابقاً هو أن تُعطى الحوافز للقطاع العام للحضور 20 يوماً حداً أقصى، على أن تكون كلفتها الشهرية بالحد الأقصى ألفَي مليار ليرة، ولكن يبدو أن ثمة اقتراحات لخفض عدد أيام العمل ليصبح بدل الإنتاج اليومي عن 16 يوم حضور، بما يوفر بعض الأموال لزيادتها للعسكريين والمتقاعدين.
وفي انتظار الدراسة التي يعدّها المدير العام لوزارة المال بالتعاون مع مصرف لبنان حول التكاليف النهائية للزيادات، ثمة اجتماعات مكثّفة للوصول إلى معالجة ترضي الأطراف كافة وتأخذ في الاعتبار إعطاء الزيادات في شهر الأعياد، وفق ما يؤكد الأسمر.
وإن كان الأساتذة لن يفيدوا من العطاءات لكونهم يحصلون على 300 دولار شهرياً بدل إنتاجية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى أساتذة الجامعة اللبنانية والقضاة الذين يحصلون على مساعدة من صندوق التعاضد، فإن العاملين في المدارس الرسمية الذي يُقدَّر عددهم بنحو 5 آلاف موظف، سيحصلون على الزيادات المقترحة للقطاع العام.
في مقلب العسكريين المتقاعدين، يبدو أن التحضير لتحركات قد يعيد مشهد تحركاتهم السابقة ولكن بطريقة منظمة أكثر، وهو ما يعوّل عليه العميد المتقاعد جورج نادر الذي رأى أن “مبدأ المساواة في الوظيفة العامة غائب، فموظف الفئة الخامسة في الإدارات العامة، أي الفئة الأخيرة في التراتبية الوظيفية التي تعادل مجنّداً في السلك العسكري، أصبح اليوم يتقاضى ما يقارب 55 مليون ليرة لبنانية مقسّمة بين بدل إنتاجية عن 20 يوماً حضورياً (32 مليون) وبدل نقل عن 20 يوماً (9 ملايين) وسبعة رواتب (14 مليوناً). أما العسكري فيتقاضى في الحد الأقصى 13 مليوناً شهرياً، علماً بأنه معرّض أثناء خدمته لأخطار عدة، ومحروم من حقوقه كالتصويت والتبرّع بالدم وعطلة نهاية الأسبوع والعطل الموسمية. وتالياً المفترض أن يتساوى العسكري في الخدمة الفعلية مع موظفي الإدارة العامة، أما المتقاعدون من العسكر فيجب أن يحصلوا على نسبة 85٪ من راتب العسكري في الخدمة الفعلية”.
ووصف نادر الـ100 دولار التي يستفيد منها عناصر الجيش من الجهات المانحة بـ”الشحاذة”، مضيفاً: “لو كان لدى حكامنا شيء من الشرف، لرفضوا تلقّي الجيش أموال من جهات أجنبية لكونه يشكّل مسّاً للسيادة اللبنانية”.
وفي حال عدم قدرة خزينة الدولة على تغطية رواتب كل العسكريين المتقاعدين، يقترح نادر توزيع الأموال المرصودة لرواتب القطاع العام سواسية بين العسكر وموظفي الإدارة الذين لا يحضرون إلى أماكن عملهم سوى ليوم واحد في الأسبوع ولفترة لا تتجاوز الساعتين في الأسبوع، أي ثماني ساعات شهرياً.
وفي ما يخص التواصل مع مجلس الوزراء قال نادر: “شكّلنا لجنة اتصال مع الحكومة مؤلّفة من ثلاثة ضباط تربطهم معرفة شخصية برئيس الحكومة، في الاتصال الأول لاقت اللجنة تجاوباً، أما في الاتصال الثاني فلم نلقَ ردّاً، ربما رأى الرئيس ميقاتي أنه مع تنسيق مع “رابطة قدماء القوات المسلحة” ظنّاً منه أنها تمثّل كل المتقاعدين، بينما نحن نرى أنها لا تمثّل إلا نفسها”.
سلوى بعلبكي – النهار
Follow Us: