الإنقسام بين الفكر الليبيرالي واليساري حول دور الدولة في الإقتصاد مُتجذّر في النقاشات الإقتصادية. فالفكر اليساري يُعطي الدوّلة دورًا مُهمًا في اللعبة الإقتصادية، في حين أن الفكر الليبيرالي – وبحسب نسبة الليبيرالية في الإقتصاد – يرفض تدخّل الدوّلة إلا من باب التشريع والتنظيم والرقابة. عمليًا مأساة لبنان تأتي من دور الدوّلة في الإقتصاد، والذي وصل إلى نسب هائلة (قبل الأزمة)، مُقارنة بدول إشتراكية مثل فرنسا. هذا الحجم الكبير والإحتكار الذي مارسته الدولة اللبنانية من خلال تقديمها خدمات حيوية ، مثل الكهرباء والإتصالات وغيرها، جعل حجم الفساد يتعاظم في القطاع العام والقطاع الخاص. وبحسب نظرية الـ Principal-Agent هناك أربع حالات ممكنة تضع الطلب (لاعب من القطاع العام – المسؤول) مع العرض (لاعب من القطاع الخاص – صاحب الرشوة) :
– أولًا حالة التساوي بين الطلب والعرض (الإحتكار الثنائي): تنصّ هذه الحالة على أن ميزان القوى بين العرض والطلب متوازن، حيث أن النخبة السياسية والنخبة الإقتصادية تتواجد، في حال تناغم كّلي يسمح لها بالإتفاق على عقود الفساد في ما بينها، مع إستثناء صغار الموظفين الذين يخضعون لسلطة القانون. هذه الحالة تنطبق على الدول المُتطوّرة مثل الدول الأوروبية، حيث عمدت النخبة السياسية إلى وضع قوانين تمنع صغار الإدارة العامّة من القيام بعمليات فساد.
– ثانيًا حالة سيطرة الطلب على العرض (Cleptocraties) : في هذه الحالة هناك نوع من الإبتزاز يُمارس من قبل القطاع العام على القطاع الخاص، حيث لا يوجد للأخير كلمة في حجم الرشوة. لذا نرى منافسة ضخمة بين أفراد القطاع الخاص لدفع الرشاوى، ويتمّ في بعض الأحيان إستخدام القوّة لإلغاء المنافسين، الذين يتواجدون في حال ضعف نسبة للقطاع العام. وتنصّ النظرية على أنه في هذه الحال، هناك هدر لحقوق الإنسان وحقّ الملكية في البلد المعني، وتُصنّفه النظرية على أنه أسوأ أنواع الفساد («الفساد المُستشري») وله مفاعيل سلبية جدًا. وتُضيف النظرية أنه في هذه البلدان يسعى الأغنياء ورجال الأعمال في القطاع الخاص للحصول على مناصب عامّة، بهدف الحفاظ على ثرواتهم الشخصية، وتفادي الإبتزاز من القطاع العام. هذه الحالة تنطبق على دول في طور النمو مثل لبنان.
– ثالثًا العرض يفوق الطلب: في هذه الحالة، هناك نخبة من القطاع الخاص عادة ما تكون رجال أعمال يملكون ثروات هائلة أو شركات عالمية، تعمد إلى الضغط على القطاع العام بهدف الفوقية. هذه الحالة تتواجد في بلدان فقيرة جدًا (أفريقيا)، حيث أن حكّامها يجدون هذه الوسيلة سهلة لتجميع الثروات. لذا نرى أن الدولة (وحكامها) تخضع إلى إبتزاز هذه النخبة، كما فعلت شركات النفط العالمية مع بعض حكام الدول الأفريقية.
– رابعًا حالة التشرذم: حيث أن عمليات الفساد تبقى مُتشرذمة نظرًا إلى كثرة اللاعبين من جهة العرض والطلب. هذه الحالة تتواجد فيها بعض دولّ أوروبا الشرقية، مثال أوكرانيا ورومانيا وغيرها من الدولّ، التي خرجت من كنف الشيوعية السوفياتية.
في لبنان، تمّ تسجيل عجز سنوي في الموازنات بمعدّل 3.1 مليار دولار أميركي سنويًا منذ العام 1993 وحتى العام 2019. أي أنه وبإعتبار أن لا فوائد على الديون الناتجة عن هذا العجز، هناك تراكم لأكثر من 83 مليار دولار أميركي على شكل دين عام! أين تمّ صرف هذه الأموال وأين نحن من المادة 112 من قانون المُحاسبة العمومية؟ لماذا لا يوجد قطوعات حساب منذ العام 2003 وحتى اليوم (أخر قطع حساب كان في موازنة العام 2005 عن العام 2003)؟
الجواب بكل بساطة في الفساد المُستشري، والذي جعل القطاع العام والقطاع الخاص يدخلان في تناغم الـ Cleptocraties ، حيث وجد كل فريق مصلحته في الدور الذي يقوم به. وبما أن الشعب في الشق الإنتخابي يتبع غريزته أكثر منه الحجج المنطقية، المبنية على ما يُقدّمه مُمثّله له من خدمات ضمن إطار مؤسسات الدولة، أصبح هناك تجذّر لهذا الفساد في مؤسسات الدوّلة بتناغم هائل مع القطاع الخاص، الذي برّر ويُبرّر دخوله في هذه اللعبة من باب «بدّي مشي مصالحي».
تداعيات الفساد كثيرة وكلها سلبية، ويُمكن الجزم أنه لا يوجد أي تداعيات إيجابية بإستثناء المفاعيل على الفاسد، الذي يزيد من ثروته الشخصية على حساب المال العام. فالفساد يضرب اللعبة الإقتصادية بالكامل، من ناحية أن مبدأ «التساوي في المعلومات والحظوظ» يتمّ ضربه بعرض الحائط بوجود الفساد، وهذا الأمر يجعل توزيع الثروات الناتجة عن النشاط الإقتصادي محصورة في قلّة من الأشخاص في المُجتمع، مما يضرب العدالة الإجتماعية ويزيد من الفقر، خصوصًا بين الفئات الضعيفة في هذا المُجتمع.
أيضًا للفساد ضررّ على المالية العامّة، التي تُعتبر الضمانة الأولى للعدالة الإجتماعية. فالفساد يمنع الأموال عن خزينة الدولة التي لا تستطيع القيام بمشاريع ذات طابع إجتماعي، ولا تأمين خدمات عامّة على مستوى عصرنا الحالي. ولكن الأصعب كما هو الحال في لبنان، أن الفساد قدّ يؤدّي إلى ضرب البيئة الإقتصادية، من خلال حرمان الإقتصاد من الأموال بهدف الإستثمارات (منافسة القطاع العام للقطاع الخاص على أموال المصارف). هذا هو بالتحديد ما عاشه لبنان، مع إزدياد طلب الدولة على أموال المصارف. وبالتالي، وصلنا إلى المحظور مع توقّف الدولة عن دفع دينها العام.
عمليًا، كل مشاريع القوانين التي تقوم الحكومة بطرحها بهدف إقرارها في المجلس النيابي لن تؤتي بجدوى، إلا إذا تمّ إقرار قطوعات الحساب (إلزامية دستوريًا) وكشفها للرأي العام، الذي يحقّ له أن يعرف أين صُرفت الأموال التي تقوم اليوم الحكومة بتحميلها للمودعين، من خلال شطب ديونها للمصارف ومصرف لبنان. هذا هو السبيل الوحيد لإستعادة المُستثمرين واللاعبين الإقتصاديين والمُجتمع الدولي الثقة بالإقتصاد اللبناني وبمؤسسات الدوّلة اللبنانية.
جاسم عجاقة – الديار
Follow Us: