فِي هَذَا السِفْرِ الْغَامِضِ الَّذِي يُسَمَّى حَيَاةً، يَظْهَرُ أَمَامَنَا مَزِيجٌ مِنْ صَفَحَاتٍ مَلْأى بِالتَّحَدِّيَاتِ الصَّعْبَةِ؛ مِنْ ثُنَائِيَّاتٍ، وَمُتَنَاقِضَاتِ، كالْحُبِّ وَالْبُغْضِ، النُّصْرَةِ وَالْخِذْلَانِ، الْمَدْحِ وَالذَّمِّ، الوًفاءِ والغَدْرِ،… مِنها: أُمُورٌ تَأْتِي كَنُورِ الشَّمْسِ فِي أُفُقِ الرُّوحِ والحياةِ، تُهَذِّبُ الِاذْهَانَ وَتَصْقِلُها، وتُصلِحُ العلاقاتِ الإنسانِيَّةِ، وَفِي الْجِهَةِ الْمُقَابِلَةِ، الْأُخْرَى، يُمْكِنُ أَنْ تَتَحَوَّلَ أُمُورٌ إِلَى عَاصِفَةٍ هَوْجَاءَ تَعْصِفُ بِكُلِّ مَا فِي طَرِيقِهَا. فَتُحَوِّلُهُ إلى الخَرَابِ بَدَلًا مِنَ العُمْرَانِ، وإلى الإضْطِّرَابِ بَدَلًا مِنِ السَّلامِ.
الْعَدْلُ وَالظُّلْمُ، بِمِيزَانٍ حَسَّاسٍ، يَعْكِسَانِ صُورَةَ الْعَالَمِ مِنْ حَوْلِنَا. فَيُمْكِنُ لِلْعَدْلِ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرَ تَوَازُنٍ وَاسْتِقْرَارٍ، بَيْنَمَا يُجَسِّدُ الظُّلْمُ سُدُولًا لِلظَّلَامِ يَحْجُبُ ضَوْءَ الْحَقِيقَةِ، فَيَجْلِبُ الخِلافَ والإضْطِّرَابَ وَالصِّرَاعَ والدَّمَارِ. وَفِي هَذَا الِاخْتِلَافِ، يَكْمُنُ تَحَدِّينا فِي اتِّخَاذِ الْمَوَاقِفِ الصَّائِبَةِ والعَمَلِ مِنْ أَجْلِ الْعَدَالَةِ والإنصَافِ.
الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ، كَالْمَرَايَا الْمُتَعَدِّدَةِ، تَعْكِسُ صُوَرًا مُخْتَلِفَةً لِلْوَاقِعِ. فَإِنَّ الصِّدْقَ يَنْبَعِثُ مِنْ الْقَلْبِ بِدِقَّةٍ كَنَبَضَاتٍ تَبُثُّ الْحَيَاةَ بِصُوَرٍ تُعَبِّرُ عن الواقِعِ بحَقٍّ، بَيْنَمَا يُؤَدِّي الْكَذِبُ، بِطُرُقُهِ المُلْتَوِيَةِ، إلى أنْ يَشُوهَ الْأُفُقَ الجَميلَ بِألوانٍ خَادِعةٍ، فَتظهَرُ الشُّبُهاتُ، وتعلو أصواتُ الإدِّعاءاتِ غيرِ الصّائبةِ، وتَشُوبُ الوقائِعَ صفاتُ الضبابِيَّةِ. وَهُنَا يَكْمُنُ دَوْرُنَا فِي اتِّخَاذِ قَرَارَاتٍ صَادِقَةٍ وَبِنَاءِ عَلَاقَاتٍ ثِقَةِ مَبْنِيَّةٍ عَلى الصِّدْقِ، فَالصِّدْقُ وَحدَهُ الحقُّ، وأمّا الكَذِبُ، وإنْ تجلبَبَ بزينةِ الحياةِ الدُّنيا وَإعلامَها فَإِنّ البُطلانَ مآلُهُ، وإنْ طالت إقامَتُه، واشتدّت قُوَّتُه، فَهُوَ مُنكَشِفٌ حَتْمًا، وزَاهِقٌ دَوْمًا.
وَفِي هَذِهِ السِّيَاقَاتِ الْمُعَقَّدَةِ، تَظْهَرُ سُلُوكاتُ الْأَمَانَةِ وَالْخِيَانَةِ، بِبِطءٍ أحيانًا وبتسارعٍ أحيانًا أخرى، لِذا يَتَعَيَّنُ عَلَيْنَا اخْتِيَارُ السَّبِيلِ الْأَمِينِ فِي مَنْ نَأتَمِنُ، وإلى مَنْ نَركُن، وَالتَّصَدِّي لِلْإِغْرَاءَاتِ الَّتِي تُحَاوِلُ أَنْ تَلْوِيَ طَرِيقَ النَّزَاهَةِ، فالأمانةُ مُقترِنَةٌ بالإيمان، وَالخِيانةُ مُقترنِةٌ بالكُفران، وكُلٌ يَعمًلُ على شاكِلَتِه.
أَيُّهَا الصِّدِّيقُ، إِنَّ الْوَفَاءَ وَالْغَدرَ يُمَثِّلَانِ اخْتِبَارًا حَقِيقِيًا لِكُلٍ مِنَّا فِي طَرِيقِ حَيَاتِنَا بمواقِفِها المتعددة، فَقَدْ نَجِدُ أَنْفُسَنَا أَمَامَ تَقَاطُعَاتٍ تَتَطَلَّبُ مِنَّا اتِّخَاذَ قَرَارَاتٍ صَعْبَةٍ. لِذَا، فَلْنَكُنْ حُكَمَاءَ فِي انْتِقَاءِ مَصَائِرِنَا، فالمرءُ شريكٌ في ما يُحِبُّ مِنْ عَمَلٍ، والوَفِيُّ مَعَ الأوْفِياءِ، والخائنُ مَع الخَوَنَةِ، وَلْنَحْمِلْ شُعْلَةَ البَصِيرَةِ وَالصَّبْرِ فِي كُلِّ خُطْوَةٍ نَخْطُوهَا.
خُلَاصَةُ الْقَوْلِ: إِنَّ تَّجَارِبَ الحياةِ، بِما فِيها مِنْ مُتَناقِضاتٍ ثٌنائيةٍ، تُشَكِّلُ نَسِيجًا مُعَقَّدًا مِنْ الخِبْرَاتِ، حَيْثُ يَنْدَمِجُ الْإِنْسَانُ فِي مَسِيرَةِ الْوُجُودِ، وَتَتَدَاخَلُ خُيُوطُ الْمَشَاعِرِ وَالتَّجَارِبِ لِتُشَكِّلَ لَوْحَةً فَرِيدَةً تُعَبِّرُ عَنْ مَعْنَى الْحَيَاةِ بِتَعْقِيدَاتِهَا وَتَنَاقُضَاتِهَا وسُلوكَاتِ الإنسانِ فيها.
مَعَ تَحِيَاتِي،
أ.د.غَازِي قَانْصُو
الخميس فِي ٢١-١٢-٢٠٢٣