قلّما تجد من يعشق العربية ويقدّم نفسه سادنا لها، في مغتربه، مثلما يكون عليه اللبناني، في بلاد الإغتراب. فما بالك إذا ما تثاقلت عليه غربته في وسط جامعي أو ثقافي، أو نأت به إلى الجنوب الفرنسي، حيث كثافة الناطقين بالعربية، من بلدان المغرب الأقصى، فصار همّه جزءا من همّهم، في أن تكون لغتهم العربية في الحفظ والصون.
هؤلاء المغاربة واللبنانيون الذين يشبهونهم، هم أكثر الناس حنينا للتحدث بالعربية. فقدوا اللغة باكرا، في بلدانهم، وكادوا يفقدونها تماما في مغتربهم في الجنوب الفرنسي، وخصوصا في مدينة Montpllier- مونبلييه، عاصمة الثقافة والعلم، وعاصمة الجامعات، وعاصمة اللغات، فإلتقطها د. جمال نصر، فرصته، ذياك الشاب النبيل، إبن بلدة كفر فاقود الشوفية اللبنانية. وهو المولود لأبوين مدرّسين. ذاق معنى الإهتمام بالعربية الفصحى، في كنف أسرته، وحمل غناها، إلى مغتربه في Montpllier، حيث كان يتخصص في جامعاتها. وأسر في نفسه، أن يغني مدينة العلم – مونبلييه، بما ترغب به. فبادر لإنشاء مكتب للعربية. حدّد هدفه نفسه بنفسه، بمجهود ذاتي منه، وبدعم مادي شخصي منه أيضا، كمن ينفق على حاجاته الشخصية، لأجل أن يساهم في تحسين اللغة العربية: قراءة وكتابة، لدى كل الناطقين بها، صغارا وكبارا لا فرق.
إلتقيته في مونبلييه، في مقهىStarbucks، في السوق التجاري الحديث: سوق Polygone. وجدت فيه الرجل المثقف الطلعة. فكانت جلسة علمية وثقافية شاملة، هدفها التنوير على أهمية العربية، خصوصا للقادمين إلى مونبلييه من أصول عربية.
حادثني: أن إهتمامه بالعربية، حمله من أبويه المدرّسين إلى مونبلييه، منذ أكثر من ست سنوات. فأنشأ موقعا إلكترونيا بهذا الخصوص، بعد محنة عاشها، خوفا على ضياع العربية بين أهلها، فصار يقدّم المساعدة لتحسين اللغة العربية، لكل من يرغب، من الناطقين بها، على كل الصعد.
وجد د. جمال نصر، بعد متابعة حثيثة مع الراغبين بتحسين لغتهم العربية وعدم نسيانها، ضرورة تعليمهم الكتابة. صار يقدّم لهم النصوص والدروس، ويدعوهم للتمرّن عليها، قراءة وكتابة. وقد إستمر في عمله هذا منذ سنوات.
كأن شغفه بالعربية هو الدافع كما وجدت فيه شخصيا، للإنفاق على تعلّمها لمن رغب. وما كان يهمّه المال ولا الوقت ولا الجهد، فطموحه الوطني اللبناني، هو الذي يشجعه ويدفعه، للاستمرار مع المتعلمين. ومن جدّ وجد.
فقد وجد أن العربية حاجة ثمينة للغاية، للمعلم والمتعلّم على حد سواء. ولا بد من المساعدة والمساندة، مهما كان الثمن، ومهما كانت تكليف الحرص والغيرة منه على العربية.
أمس، لفتني بتغريدة تدعو كل من يرغب، بالمنافسة في «الإملاء العربية»، أن يترشح لهذه الغاية. إختار يوم اللغات العالمي، ليكون أيضا للغة العربية حصة فيه. ولم يلبث أن إندفع إليه الراغبون بالإشتراك بالمسابقة. وجد أن تجربته الشخصية ذات الطابع الوطني، قد لاقت صداها، بين الجامعيين، وبين تلاميذ المدارس، وبين أهل اللغة العربية، الذين تأخّروا عنها، بسبب الإغتراب والهجران، فنال أجره وثوابه على الفور.
في يوم اللغة العالمي، كان للعربية نصيب، على يد د. جمال نصر، إبن بلدة كفر فاقود اللبنانية. فهو منذ ست سنوات يعمل لخدمة العربية بصمت في مونبلييه. وإليه، وإلى جهوده التعليمية، وجهوده في حفظ العربية وتعليمها والمحافظة عليها، أقدّم التنويه به بين أبنائنا اللبنانيين، الذين يتعالون على نكبات بلادهم بسياسييها، ويقدمون كل جهد، لأجل خدمة اللغة الوطنية، في المغتربات العالمية.
إن الإحتفاء بالدكتور جمال نصر والتنويه بجهوده الفردية في يوم اللغة العالمي، لربما يساهم بتسديد الخطى في هذا المجال، ويساهم بالتالي بإنعاش العربية في النفوس التي أعلّها الإغتراب. وهذه التحية له، تأتي في مجالها وفي موقعها الصحيح، في اليوم العالمي للغات. أليس الدكتور جمال، هو الذي إختار هذا اليوم الأمجد لشد أزر العربية، وهو الذي يقول: ضياع العربية من ألسن أبنائها، هو المقدمة الأولى لضياع أوطانها في النفوس!
تحية للغة العربية إذا، في اليوم العالمي للغات. وتحية لمن لم ينسوا لغتهم الأم، ولا وطنهم الأم. وتحية خاصة للدكتور جمال نصر إبن بلد كفر فاقود الشوفية اللبنانية، الذي لم ينسَ وطنه وحسب في مونبلييه، بعد سنوات هجرته الست، في طلب العلم، وإنما لم ينسَ العربية من دائرة إهتمامه. لم ينسَ أهل العربية، الذين هم أحوج إلى متابعة جهوده في حفظ العربية ودرئها عن ضرر الركاكة بها.
د. قصي الحسين أستاذ في الجامعة اللبنانية
Follow Us: