ان الحب في بيروت كالروح في الجسد، وكأنها الاكسير الذي يطيل العمر مثل الهواء والماء. وصدق الشاعر المصري محمد عفيفي الذي قال: “بيروت إذا أردت أن تقدّم تعريفاً مناسباً لها، فلن تجد مهما أجهدت ذهنك شيئاً تقوله سوى أنّها… بيروت”!
حتى احجارها تضجّ بالحياة، لأنها كالأنثى التي تمنح الخصيب وتهدينا الفصول. ان ذهب لبنان ذهبتم معه، لأنه ساحة للفكر ومنارة للعلم والحضارة وعنفوان المقاومة والنضال. وبيروت الملجأ والنجمة، والفؤاد لا يضحك الا باستقرارها وحفظ الامن والهدوء فيها. هي وردة الاقحوان الأخاذ، ومنتدياتها شعاع ثقافة ينبثق من كل بيت وقرية ومدينة وعمارة وحديقة، ليصل الى الالباب ويتخطى الحدود الى سائر اصقاع الأرض.
وفي هذا الإطار، قال مصمم الأزياء اللبناني العالمي ايلي صعب: “أحب ربيع بيروت، لأنه فصل يليق بهذه المدينة التي تعرف كيف تنتفض على موتها وتتجدد باستمرار”.
السيدة ماجدة الرومي رتّلتها بأسلوب انيق فقالت: “يا بيروت، يا ست الدنيا يا بيروت، نعترف أمام الله الواحد، أنّ كنا منك نغار وكان جمالك يؤذينا”.
وقال الشاعر محمود درويش عن بيروت: “هي الكتابة الإبداعية المثيرة”.
وصدق سعيد عقل عندما انشدها قائلا: “تبقين بيروت، رأساً عالياً أبدا!
بيروت مطبوعة في الذاكرة
يُذكر في هذا السياق، ان الشيخ محمد بن راشد قال في كتابه “قصتي… 50 قصة في خمسين عاماً”… “ذكرياتي الأولى مع بيروت كانت من بدايات حياتي وأنا صغير، وأنا القادم من صحراء دبي، من بيوتها الطينية، من شوارعها الترابية، من أسواقها المبنية من سعف النخيل”. أضاف: “كانت شوارعها النظيفة، وحاراتها الجميلة، وأسواقها الحديثة في بداية الستينات مصدر إلهام لي، وحلماً تردد في ذهني أن تكون دبي كبيروت يوماً ما”. سافرت مع إخوتي إلى بيروت، كان لابد من المرور بها للوصول إلى لندن، أذهلتني صغيراً، وعشقتها يافعاً، وحزنت عليها كبيراً”. الكل يتذكر لبنان عندما كان “سويسرا الشرق”، والكل لديه ذكريات سعيدة وانطباعات جميلة عن هذه العاصمة بيروت.
هكذا تغزل الشعراء والقادة العرب بـ “ست الدنيا”، واسترسل بوصفها الروائيون والكتّاب، والسؤال المطروح في الآونة الأخيرة: اين أصبحت يا ترى منتديات بيروت الثقافية؟
ام الشرائع
بالموازاة، مَن مِن زعماء الاحزاب والسياسيين اللبنانيين تخلو ذاكرته من دردشات “المودكا” و “الويمبي” او “الكافيه دو باري” او “الهورس شو”؟ ومَن مِن الشعراء والكتاب اللبنانيين والعرب المخضرمين وادباء وممثلين فرنسيين وأجانب، لم يحتسِ القهوة في “الاكسبرس”، او تناول وجبة مميزة في مطعم “فيصل”، او ينصرف الى جلسة حالمة في “الدولتشي فيتا” قبالة صخرة الروشة، او في احدى “القهاوي” التي كانت منتشرة في شارع الحمرا.
حلقات ولقاءات ثقافية وندوات ومقاهٍ معظمها اضمحل، كما غادرت وجوه مثقفة ومعروفة هذا العالم، ورغم ذلك تبقى بيروت بكل ما فيها شبكة أساسية في منطقة الشرق الأوسط والعالم، ومحفلا يحتضن ويجمع العرب.
بيروت كاملة النعوت
قال الروائي الصحافي والكاتب والشاعر زياد كاج لـ “الديار”: كان “يوجد ضمن إطار ما يسمى بالمقاهي الثقافية قديما، مطعم اسمه “فيصل” ويقع بشارع “بلس” مقابل الجامعة الأميركية في بيروت، وكان يمثّل علامة فارقة، ويعتبر محطة لعقد لقاءات ثقافية وسياسية، وفيه تشكلت أحزاب، وتم التخطيط على طاولاته للقيام بانقلابات، والزعيم أنطون سعادة كان أحد رواد هذا المطعم”.
أردف: ” بدأت أهمية هذا المكان في الستينيات وصولا الى أواسط الثمانينات، فتألف وقتذاك مختبر فكري وثقافي للم شمل كل المثقفين، والذين لديهم مشاريع ثقافية ويحملون أفكارا عروبية، وكان هناك شخصيات مهمة جدا على المستوى العربي والعالمي كانت تأتي وتجتمع على “لقمة طيبة”. كما ان أكثرية طلاب الجامعة الأميركية كانوا يحضّرون دروسهم في هذا المطعم، ويشاركون بالندوات والحلقات الحوارية السياسية والفكرية والثقافية”.
وتابع بسرد احداث تلك الحقبة الذهبية قائلا: “الى جانب قهوة “داوود”، التي كانت موجودة بالقرب من منطقة “السان جورج” باتجاه جهة الشرق، وهذا المقهى كان مشهورا ومميزا بعواميده وتراسه المصنوع من الخشب وكان قائما داخل البحر، ولكنه مع الأسف دمر وحرق ابان الحرب الاهلية وحرب الفنادق بالـ 75″.
واستكمل: “يمكننا الحديث عن “الويمبي” ومقهى “الهورس شو”، الذي أصبح اسمه فيما بعد “الكوستا” وصار اسمه حاليا “الروسا”، وكان لهذه القهوة دلالة مميزة حينذاك.
مدينة الالهة لا تخسر ابدا
وقال كاج: “بيروت تفقد فيها اليسير فتربح الوفير وبزيادة، هي مدينة يهفو فيها الاحترام والرزانة، بمحاسنها تغزل كل من جبران خليل جبران وبدر شاكر السيّاب ونزار قباني، لان “ست الدنيا” تمثل العشق والهيام والحب الذي يولد الابداع، والايمان بهذه المدينة باقٍ الى ما شاء الله. هي وجدت لتكون واجهة للعالم تتمايز بتركيبتها وجمالها وجبروت شعبها، فكانت وستبقى منارة ثقافية ومنبرا للحرية وراحة للعالم اجمع، وتعد ملاذاً لكل فرد متعطش للجمال والفن، للاختراع والاختلاق والاستنباط والمهارة والحذاقة في كل ميدان ومجال وقطاع”.
ناشط بدلا من مثقّف!
ردّ كاج أسباب تقهقر واندثار ظاهرة المنتديات والمقاهي الثقافية الى عدة عوامل أهمها: انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا الامر طبيعي لان هذا الجيل اليوم يفضل الجلوس في الأماكن التي يتوافر فيها الاتصال بشبكة الانترنت، لذلك تراجعت الحركة الثقافية والنقاش العام والمعارك الفكرية، وانصهر مفهوم المثقف وحل مكانه مفهوم الناشط، والبروز أصبح أكثر سهولة عبر السوشيال ميديا. الى جانب عامل التسخيف وتسطيح التيار الثقافي – الديني الذي اجتاح العالم العربي والطائفي ووصل مدّه الى لبنان، وهذا الامر ساهم في تعديل الفكر وتحقير الفقه”.
وختم قائلا: “المقاهي لا تزال تشهد لقاءات وجلسات، ولكن تضم جيل الخمسين وما فوق”.
ازلية باقية!
اما الكاتب والصحافي نبيل المقدم فقال لـ “الديار”: “لم يجف نبض الثقافة في قلب بيروت، هي سرمدية ابدية لا تعرف الاستكانة ولا يتسلل الى قلم مبدعيها النعاس. الحرف سلاحها الأمضى وكلمات مثقفيها حد السيف، والمعرفة حصنها المنيع منذ زمن بعيد”. وأضاف”ستبقى منتدياتها الثقافية قلاعا حصينة ومؤسسات تنبض إبداعا، تحرسها بلابل الشعر والنثر والرسم والفن والأدب. انها عمود صلب من أعمدة الاتقان في لبنان والعالم العربي، بيروت تسكن قلب وعقل كل مبدع وفنان وستظل وتستمر”.
ندى عبد الرزاق – الديار
Follow Us: