كتب محمد وهبة – الاخبار : فيما يغرق الجميع في نقاش حول وجهة استعمال الاحتياطات بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان، غافلين أو متغافلين عن حقيقة أنها الذخيرة الأخيرة التي يملكها لبنان، يواصل مصرف لبنان عملية تفكيك الهندسات المالية لمنح قوى السلطة فرصة إجراء عملية تجميل للنظام المفلس. هكذا طار البحث في أصل المشكلة، أي خطّة الخروج من الأزمة وتعبئة الموارد في سبيلها، من أجل إنقاذ هيكل النظام
ثمّة مؤشرات متزايدة تشير إلى أن قوى السلطة تراهن على إنقاذ النموذج الاقتصادي المنهار. ركنا النموذج، أي قوى السلطة وقوى الريع المالي (مصارف، شركات، رجال أعمال…)، يسعيان بهذا الرهان للعودة إلى السابق. حالياً، الطرفان يتقاذفان الاتهامات بدلاً من تقاسم الموارد وتحويلها إلى غنائم زبائنية. في السابق كان الغَرف من المال العام سهلاً ويؤمن تمويلاً زبائنياً ملحوظاً لقوى السلطة عدا التمويل الذي كانت تستقطبه من الخارج. أما قوى الريع المالي، فكانت تحصل على حصّة واسعة من «الغنيمة»، وهي اليوم تأمل باستبدال قوى السلطة بقوى صندوق النقد الدولي، معتقدة بأن حصّتها من «الغنيمة» محفوظة وشرعية أكثر مع الصندوق. حاكم مصرف لبنان، بوصفه أحد مهندسي النموذج القائم على تثبيت سعر الصرف الذي كان يؤمّن توزيع الريع المالي والريع السياسي أيضاً، يأمل بإعادة إحياء النموذج وإعادة توحيد ركنَيه من خلال تفكيك الهندسات المالية التي نفّذها على مدى السنوات الماضية والتي أدّت إلى تشابك الورم المالي بين موازنات المصارف ومصرف لبنان.
قنوات التفكيك
خلال الأشهر الماضية، كان مصرف لبنان يعمل على تفكيك الهندسات التي نفّذها منذ منتصف عام 2016. آلية التفكيك لا تعني بأي شكل من الأشكال استعادة الأرباح التي حقّقتها المصارف من هذه الهندسات، وإنما تشير إلى تفكيك الهرم المالي الناتج عن هذه الهندسات وتقليص مفاعيله على موازنات مصرف لبنان والمصارف؛
تجري عملية التفكيك بأكثر من طريقة:
– منذ أشهر يعمد مصرف لبنان إلى بيع الدولارات المحلية للمصارف بسعر 1515 ليرة للدولار مقابل حسم شهادات إيداع بالليرة والودائع التي وظّفتها المصارف لديه أيام الهندسات المالية. ومقابل كل عملية بيع للدولارات، يشطب مصرف لبنان مبلغاً مماثلاً حصلت عليه المصارف عبر الهندسات (المصارف كانت تودع الدولارات لدى مصرف لبنان ثم تستدين منه بالليرة بقيمة توازي 125% من قيمة المبلغ المودع بفائدة 2% وتعيد توظيف الليرات لدى مصرف لبنان بفائدة مرتفعة حتى بلغ مجموع الفوائد التي تحصل عليها نحو 17% وأكثر في بعض الحالات. كانت المصارف توظّف هذه الأموال عبر إيداعها لدى مصرف لبنان أو شراء شهادات إيداع بالليرة صادرة منه). ورغم أن مصرف لبنان خفّض سقوف (الكوتا) بيع الدولارات للمصارف، إلا أنه ترك المجال مفتوحاً على مصراعيه أمامها لشراء الدولارات عبر التسديد المؤجّل، أي تسجيل العمليات في مراكز قطع سلبية تُحتسب على أساس نسبة من رساميلها (بلغت نسب مراكز القطع السلبية أكثر من 25% من قاعدة رساميلها لدى بعض المصارف).
– عندما خلق مصرف لبنان ما يُسمى سعر المنصّة تاركاً سعر السوق الموازية على سجية المضاربات ومحدّداً سعر الدولار المحلي لديه بقيمة 1515 ليرة، فهو أتاح عملياً تجارة الشيكات المصرفية بالدولار المحلّي أيضاً والتي أصبحت تجارة علنية. تباع هذه الشيكات بسعر يُراوح بين 2800 و3000 ليرة مقابل الدولار الواحد. في إطار هذه العملية، تحوّل قسم من الودائع إلى شيكات مصرفية وجهتها النهائية صبّت لتغطية القروض المصرفية. كما أنه أتاح للمودعين سحب جزء من ودائعهم (سواء كانت بالدولار أصلاً أم جرى تحويلها من الليرة إلى الدولار) على سعر المنصّة بقيمة 3900 ليرة مقابل الدولار أيضاً، أي سحبها بالليرة اللبنانية.
عمليات دفترية
في الواقع، فإن الدولارات التي يبيعها مصرف لبنان للمصارف هي عبارة عن دولارات محلية (غير حقيقية) لا يمكن تحويلها إلى الخارج ولا يمكن استعمالها إلا بالليرة اللبنانية. كما أنه لا يمكن إغفال أن هذه العمليات ذات طابع دفتري بحت، أي أنها عمليات تجميلية بالمطلق. الناتج من هذه العمليات هو على الشكل الآتي:
– في المسألة المتعلقة بتجارة الشيكات المصرفية، فإن المصارف شطبت مبالغ من محفظة ودائعها (الودائع تسجّل في الموازنة التزامات عليها) وشطبت أيضاً قسماً من القروض (القروض تسجّل في الموازنة أصولاً لديها). وفي المقابل، فإن ما يوازي قيمة الالتزامات التي شطبتها المصارف تجاه الزبائن، هو عبارة عن ودائع بالدولار وظّفتها لدى مصرف لبنان والقسم الأكبر منها أيام الهندسات. وبمعزل عن القنوات التقنية لهذا الأمر، أصبحت هذه الودائع لدى مصرف لبنان بحكم المشطوبة أيضاً، وبالتالي تقلّصت الخسائر المحقّقة في موازنة مصرف لبنان والمصارف أيضاً.
– في المسألة المتعلقة بشراء الدولارات عبر مراكز القطع السلبية، فإن المسألة تنطوي على أهداف أبعد من ذلك. فعندما اشترى المصرف دولارات وهمية (محلية) من مصرف لبنان مستعملاً قاعدة رساميله في هذا الأمر، فإنه سجّلها في موازنته على أنها دولارات بسعر 1515 ليرة بينما يمكن أن يصبح سعرها خلال الفترة المقبلة أعلى بكثير ربطاً بسعر الصرف الفعلي في السوق.
تقليل الخسائر
لكلّ من هذه العمليات نتائج مختلفة على موازنات المصارف. فمن جهة ستتقلّص موازناتها وستتقلّص معها مخاطر التوقف عن السداد طالما أن الزبائن يسدّدون قروضهم المتعثّرة بقيم أقل. فعلى سبيل المثال، إن أحد الأفراد المقترضين من المصارف يملك 35 ألف دولار نقداً (دولارات حقيقية) بإمكانه أن يشتري شيكاً بقيمة 112 ألف دولار (المعادلة اليوم صارت على النحو الآتي: كل دولار حقيقي يساوي 3.2 دولارات وهمية) لتسديد دين مصرفي. كلما سدّد الزبائن الديون المصرفية بودائع أفراد آخرين، اتسعت الفسحة المالية التي ستحصل عليها المصارف نتيجة عدم قيامها بأخذ مؤونات مقابل الديون المتعثّرة، وخصوصاً أنه يترتب على المصارف أن تأخذ المؤونات بعملة القرض نفسها. فرغم ارتفاع نسبة التعثّر في القروض المصرفية من 20% في السنة الماضية إلى 28% في منتصف السنة الجارية، لم تزدَد قيمة المؤونات المتوجب على المصارف تكوينها مقابل التعثّر إلا بنحو 900 مليار ليرة، والسبب يعود إلى تسديد قروض بقيمة 14 ألف مليار ليرة.
عادة المؤونات هي اقتطاعات تأخذها المصارف من الإيرادات والأرباح، لكن في ظل متطلّبات الرسملة المرتفعة والخسائر الكبيرة التي تكبّدتها المصارف بسبب توظيفاتها في مصرف لبنان بالدولار وفي سندات الخزينة بالدولار (يوروبوندز) وإقراض الزبائن بالدولار، فإن الأعباء الرأسمالية عليها كبيرة ومطلوب منها زيادة رساميلها في نهاية السنة بنسبة 20%، وتكوين احتياط حرّ خارجي في نهاية شباط بنسبة 3% من مجموع الودائع بالدولار. لذا، فإن تقليص المؤونات يخفّف عن كاهلها مصيبة أكبر ويمنحها فسحة للتحرّك بحرية أكثر لتحرير قسم من أرباحها واستعماله في عملية إعادة الرسملة وفي إعادة تكوين المؤونات بالدولار، وخصوصاً أنه لا تزال لديها إيرادات بالدولار من مصرف لبنان. فبحسب تعاميم مصرف لبنان التي تخالف المعيار الدولي IFRS9 لأنه خفّض قيمة الخسائر المتوقعة على توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان، بات يترتب على المصارف تكوين المؤونات على النحو الآتي: 1.89% على الخسائر المتوقعة في توظيفاتها بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان، و45% على الخسائر المتوقعة في سندات اليوروبوندز وعلى الخسائر المتوقعة أيضاً في محفظة التسليفات.
ضريبة ضخّ النقد
في مقابل كل هذه العمليات، يواصل مصرف لبنان إصدار النقد (الليرة). في نهاية تشرين الثاني بلغت قيمة النقد قيد التداول نحو 28 ألف مليار ليرة مقارنة مع 5960 مليار ليرة في نهاية حزيران 2019، وبلغ معدل الكميات الإضافية التي يضخّها في السوق نحو 1350 مليار ليرة شهرياً. هذه الأموال قد تبدو للوهلة الأولى على أنها «الغيث» الذي يتيح للمقيمين في لبنان شراء حاجاتهم مقابل تعدّد أسعار الصرف، لكنها في الواقع عبارة عن ضريبة يدفع ثمنها الاقتصاد بشكل عام عبر تغذية تضخّم الأسعار. وهي ضريبة تضاف إلى تلك التي تنقل الثروة من أيدي المودعين إلى المقترضين، إذ أن المودعين يدفعون ضريبة بمعدل يصل إلى 65% ربطاً بنسبة الحسم التي يحصلون عليها مقابل بيع شيكاتهم المصرفية. والعلاقة بين مصرف لبنان والمصارف باتت أقل وزناً بعدما انخفضت قيمة ودائع المصارف لدى مصرف لبنان بنحو 10 آلاف مليار ليرة في نهاية أيلول. يقول مسؤول مصرفي سابق، إن حصّة الودائع بالدولار تنخفض لمصلحة حصّة الودائع بالليرة. عملياً يتم تحويل الالتزامات المترتبة على مصرف لبنان بالدولار تجاه المصارف، إلى التزامات بالليرة. والمصارف تخفف أيضاً من التزاماتها تجاه الزبائن. ودائع المقيمين تقلّصت في نهاية أيلول بقيمة 17584 مليار ليرة، أما موازنات المصارف العامة فقد تقلّصت بقيمة 36500 مليار ليرة في تسعة أشهر.
رغم كل الحديث عن تباينات بين حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وجمعية المصارف، ما زال مصرف لبنان يعمل في خدمة المصارف. ورغم كل ما حصل في الأشهر الأخيرة، تبقى أولوية مصرف لبنان هي الفئة التي كانت الأكثر استفادة من النموذج القائم، حتى في انهيار النموذج هي الفئة الأكثر استفادة. لكن هل سينتج من هذه العمليات التجميلية للموازنات أمر صحّي في الاقتصاد؟ الإجابة تكمن في الرهان على أن مصرف لبنان بإمكانه تحمّل الخسائر لمدد زمنية تصل إلى 30 سنة وربما تتجاوزها. وهنا تلعب قوى السلطة دور الغطاء السياسي عبر التمييز بين الخسائر التي يحدّدها سلامة والخسائر التي حدّدتها خطة الحكومة ووافق عليها صندوق النقد الدولي. الرهان الأهم وهو رهان مشترك بين قوى السلطة وسلامة وقوى السوق (الريع المالي) هو أنهم يعوّلون على هذا النوع من العمليات أو ما يمكن تسميته بالسياسات النقدية – المصرفية، من أجل إعادة إحياء النموذج وتحميل الخسائر للأجيال المقبلة.