في الوقت الذي اتجهت الأنظار إلى الدور الاميركي في الحل الديبلوماسي للوضع في الجنوب، غداة زيارة الموفد الرئاسي الاميركي لشؤون الامن والطاقة آموس هوكشتاين إلى بيروت، على خلفية ما حمله من اقتراحات، وما سيكون الجواب اللبناني عليها، لا تغيب الديبلوماسية الفرنسية عن تحرك لم يتوقف منذ الزيارة الأخيرة للموفد الرئاسي جان – ايف لودريان في نهاية تشرين الثاني الماضي، ومن بعده زيارة وزيرة الخارجية في الحكومة المستقيلة كاترين كولونا، والتي خُصصت في حيز كبير منها لنقل تحذيرات شديدة اللهجة الى السلطات اللبنانية حيال التهديدات من توسع دائرة المواجهات جنوباً.
تحرص باريس عبر جهودها الديبلوماسية على التحرك انطلاقاً من ثلاثة محاور رئيسية. أولها التأكيد على ان دورها في لبنان واهتمامها بأمنه واستقراره ليس أمراً عابراً أو ظرفياً، بل هو من ثوابت السياسة الفرنسية تجاهه. وعليه، فهو لا يتوقف على مبادرة أو وساطة، الأمر الذي يبلغه ولا يزال الرئيس ايمانويل ماكرون لموفدين، كما للسفير الفرنسي في لبنان ايرفيه ماغرو الذي تولّى مهامه قبل بضعة أشهر فقط. أما المحور الثاني الأساسي الذي يرتكز عليه الدور الفرنسي فيتمثل في تثبيت هذا الدور ضمن مجموعة الدول الخمس، رغم ما تردد في اكثر من محطة عن تباعد أو تباين بين الموقفين الفرنسي والاميركي. وتسعى باريس إلى تأكيد التنسيق والتعاون بينها وبين الدول الأعضاء في اللجنة الخماسية، من خلال حركة الاتصالات والمشاورات التي لا تتوقف، أقله بين الدول الاكثر محورية في الحركة، وهي إلى جانب فرنسا، الولايات المتحدة الاميركية وقطر، من دون إغفال التواصل مع مصر والمملكة العربية السعودية. وقد جاءت زيارة هوكشتاين إلى باريس قبيل زيارته الى بيروت لتؤكد هذا المنحى، حيث عرض أفكاره ومقترحاته التي لا تجدها باريس بعيدة عن التحقّق. وتؤكد معلومات موثوق بها ان لودريان سيعود إلى بيروت قريباً. ويجري التحضير لزيارته انطلاقاً من نتائج الاتصالات الجارية، ولا سيما مع دول الخماسية، لإعادة إطلاق الجهود حيال الدفع نحو انجاز الاستحقاق الرئاسي، وذلك من منطلق اقتناع فرنسي بضرورة الفصل بين الوضع في الجنوب وحرب غزة من جهة، وبين الوضع الامني وسط التهديدات المتنامية بإمكان توسع الحرب، والملف الرئاسي، وهذه النقطة تقود إلى المحور الثالث من التحرك الفرنسي.
الثابت ان ثمة اختلافاً بين التحرك الاميركي والتحرك الفرنسي تجاه لبنان، اذ تعمل واشنطن على حل سياسي اقليمي يكون لبنان جزءا منه، في حين تركز باريس على الملف اللبناني حصراً وليس من ضمن تسوية اقليمية، حيث تنظر إلى هذا الأمر على انه سيضع لبنان على رفّ الانتظار الذي قد يطول، في حين لا يملك لبنان ترف الوقت من جهة، كما ان التسوية الاقليمية لن تنصفه بمندرجاتها، حيث الاولوية قد تكون في مكان آخر، ولا سيما في غزة. كما تخشى باريس ان يتم اقحام الرئاسة ضمن اي تسوية مرتقبة، خصوصاً إذا ما دخل “حزب الله” في مفاوضات او في تسوية، بحيث يُخشى ان يقايض الجنوب بالرئيس!
ولا تغفل الديبلوماسية الفرنسية التذكير بالمشهد قبل اندلاع حرب غزة، إذ كانت الساحة اللبنانية تترقب التسوية الدولية على ضوء المفاوضات الاميركية – الإيرانية، فيما اليوم تستأثر غزة بالمشهد، والى جانبها لبنان، وهما الملفان اللذان يشكلان مكمن الضعف في المنطقة.
لم تتبلور بعد ملامح تحرك الخماسية حيال الملف الرئاسي، وهو الذي كان انتهى في اجتماعها الأخير في الدوحة على تحديد مواصفات الرئيس، فيما ذهب القطريون أبعد نحو اسقاط اسماء على تلك المواصفات، علماً ان باريس خرجت من لعبة الاسماء، كما أكد لودريان في زيارته الاخيرة التي اكتسبت اهمية إضافية نظراً إلى انها جاءت غداة زيارتين قام بهما إلى الرياض والدوحة. لودريان حمل في تلك الزيارة طرحاً جديداً يقوم على معادلة “الخيار الثالث”، وهو ما سيكون عنوان زيارته المقبلة.
يشكل ملف التمديد لقائد الجيش اخيراً نموذجاً ناجحاً لما يمكن ان يثمر عنه توافق الخماسية. فإجماع الدول الخمس على ضرورة منع الشغور في موقع قيادة الجيش، معطوفاً على جهود كثيفة توزعت بين هذه الدول ولبنان، أفضى إلى انجاز التمديد. ويمكن لهذه التجربة ان تتكرر على نحو يسهم في انجاز الاستحقاق الرئاسي في ما لو حصل توافق وإجماع على مستوى هذه الدول، يدفع بالجهود نحو تحقيق توافق لبناني مماثل على مرشح يحظى بهذا التقاطع اللبناني – الدولي حوله. وقد تكون هذه احدى أهم المهمات المقبلة للموفد الرئاسي الفرنسي!
سابين عويس – النهار
Follow Us: