إغلاق الرئيس الأميركي جو بايدن سماعة الهاتف بوجه رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بعد محادثة متوترة حول الحرب الدائرة في غزة، يُعزّز الإنطباع بأنّ الصدام الأميركي – الإسرائيلي مرشّح لأن يتفاقم أكثر خلال الأسابيع المقبلة. ذلك أن نتنياهو يرفض تحديد موعد حاسم لإعلان انتهاء الحرب وهو لا يُفصح عن الخطوات اللاحقة التي يعتزم اتخاذها، فيما الانطباع الغالب بأنه يودّ استكمال حربه ولكن باتجاه الضفة الغربية هذه المرة بهدف استكمال تهجير الفلسطينيين من غزة باتجاه مصر ومن الضفة باتجاه الأردن، وهو ما تعارضه واشنطن بشدة.
فعَدا الأضرار الكبيرة التي تلحق بالمصالح الأميركية على المستويين العربي والعالمي، هنالك مخاوف تطال استقرار الاردن واحتمال انفجاره من الداخل.
وتدرك إدارة بايدن أنّ حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة لن تذهب ببساطة لإعلان وقف إطلاق النار لأنها تلعب ما بين حَدين: الأول، وهو المتعلق بعقيدتها الداعية الى تصفية الحضور الفلسطيني بالكامل. والثاني، وهو إطالة أمد الحرب لأطول فترة ممكنة والرهان على عامل الوقت لتحسين الوضع الانتخابي وتبريد الغضب الشعبي الناتج عن زلزال «طوفان الأقصى».
لكن بايدن محشور داخليا ودوليا وعامل الوقت بات ضاغطاً عليه، ما يعني أنه سيتحرك لِهَز عناد الحكومة الإسرائيلية وقد بدأت البوادر تظهر في هذا الاتجاه.
ففي العاصمة الأميركية همس حول نية المبعوث الخاص لشؤون المعونات الإنسانية لحرب غزة دايفيد ساترفيلد تقديم استقالته من منصبه خلال الأسابيع القادمة، وذلك في إطار الخلاف الكبير الحاصل بين إدارة بايدن وحكومة نتنياهو، واعتراضاً على العراقيل الإسرائيلية بوجه السعي لإيصال المعونات الانسانية بسبب العراقيل على الحواجز الأسرائيلية والبطء في توزيعها.
ويأتي ذلك وسط ارتفاع مستوى الانتقادات الداخلية على الرد الاميركي على الحوثيين الذي اعتُبر ضعيفاً، ووجوب التعامل معهم كمصدر لتهديد استراتيجي، إضافة لانتقادات أخرى حول سعي بايدن لإعادة إحياء الاتفاق النووي مع طهران ورهانه على حلول ديبلوماسية. ولا شك بأنّ مصدر هذه الحملات هو الحزب الجمهوري وسط تصاعد حمى الحملات الإنتخابية.
وإدارة بايدن تدرك بأنّ الوقت أصبح ضاغطاً لناحية الذهاب الى ترتيب اتفاق سياسي كبير يشمل كامل الشرق الأوسط عبر مؤتمر دولي للسلام، وهو ما يراهن بايدن على حصوله في الصيف المقبل ويسمح له باستثماره انتخابياً. ولكن للوصول الى هذا الهدف لا بد من انتهاء الحرب في غزة، وبالتالي سقوط حكومة نتنياهو، والدعوة لانتخابات جديدة في مدة ثلاثة أشهر ينتج عنها حكومة جديدة لا وجود لليمين فيها والانطلاق بعدها الى تسوية سياسية عريضة.
وثمّة مؤشرات تشجّعها واشنطن وتتعلق بالتفسّخات المتزايدة داخل حكومة نتنياهو. لكنّ الفريق اليميني الإسرائيلي يلعب «صولد»، وهو ما يستوجِب الحذر من قيامه بخطوة متهورة.
وفي المقابل تسعى إيران الى تحسين أوراقها على مستوى المنطقة من البحر الأحمر وصولاً الى العراق وسوريا، وسط كلام عن قنوات تفاوض سرية مع واشنطن عبر سلطنة عمان.
ففي وقت سادَت الريبة دول الخليج حول الضربات الأميركية الضعيفة باتجاه الحوثيين واعتبارها أنّ ما حصل يقوّي الحوثيين ولا يضعفهم، تماماً كما نتيجة الحرب الإسرائيلية على «حزب الله» في العام 2006، بادرَت إيران الى توجيه صواريخها البالستية باتجاه أربيل وشمال سوريا وباكستان في خطوة حربية نادرة حملت رسائل عدة.
لكنّ الاستنتاج الأولي بأنّ قيام إيران بهذه الخطوة الجريئة إنما لا يعكس وجود قلق لديها من العواقب، ولا من وجود مخاطر لفتح جبهة واسعة للحرب في اليمن. لا بل على العكس كأنّ هنالك اطمئناناً بأنّ الحدود الجنوبية لإيران والقريبة لليمن لن تشهد تصعيداً حربياً ما يسمح لها بالتفرغ لأماكن أخرى في المنطقة.
ويقرأ البعض في رسائل إيران الصاروخية إشارة الى أنها تملك القدرة على خلط الأوراق، ما يعني التقاط أوراق ستحتاج إليها في مفاوضات إعادة رسم الخارطة السياسية للمنطقة.
ولبنان ليس بعيداً عن كل هذا المشهد، وهو الذي يعيش حرب استنزاف مكلفة في الجنوب.
وإذا كانت روسيا تتعاطى بكثير من الغموض على الرقعة السورية وتلتزم الصمت حيال العمليات الجوية الإسرائيلية والاغتيالات لمسؤولين إيرانيين وحلفاء لهم إضافة الى دخول جوّي أردني في المنطقة الجنوبية، فإنّ الساحة اللبنانية تبدو محكومة بالانتظار الصعب والمُكلف من دون الذهاب الى الحرب المفتوحة.
وبدا حزب الله منزعجا من الزيارة «الباهتة» للمفاوض الأميركي آموس هوكستين ذلك أنّ أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله كان قد استبقَ وصول هوكستين الى بيروت بالإعلان عن وجود « فرصة تاريخية لاسترداد كامل الحدود اللبنانية». وهو ما اعتبر بأنه ثمن مقبول للشروع في ترتيب وقفٍ لإطلاق النار في جنوب لبنان على أن يجري إتمام ذلك مع انتهاء الحرب في غزة. لكنّ المفاوض الأميركي لم يحمل أي خطة في هذا السياق، وجُل ما طرحه عرض لبعض النقاط وتحذير من وجود خطر لعمل عسكري من بعض المسؤولين الاسرائيليين، والطلب بإعادة المستوطنين الإسرائيليين الى مستوطناتهم، ولكن من دون خطة واضحة حول الحدود البرية. وهو ما اعتبره البعض وكأنه عرض للهدنة مقابل الهدنة وليس مقابل تثبيت الحدود.
لأجل ذلك ظهرت إشارات الإنزعاج لدى «حزب اللطه، وفي هذا السياق جاء تلويح حسن نصرالله بأنّ الحزب جاهز للحرب.
لكن هذا التلويح بالحرب هو رد على المهمة «الخاوية» لهوكستين أكثر منه قرار جدي. لا بل على العكس فإنّ المراقبين يدركون الوضع الجنوبي الصعب في ظل حرب الاستنزاف، والتعب الذي تشعر به البيئة اللبنانية بعد سنوات عدة من الأزمات الاقتصادية والحياتية والمعيشية. وقد يكون هنالك مَن هو مُرتاب مما يجري التحضير له، أي أن يكون الهدف من تأجيل الحلول من أجل ربط الحل الحدودي بمسائل أبعد تطال الوضع في لبنان في إطار إعادة تنظيمه وفق معايير جديدة، والتي قد تشمل المخيمات الفلسطينية أيضاً. وهو ما يمكن أن تلحظه التسويات الأوسع في المنطقة وصولاً الى إقرارها في المؤتمر الدولي للسلام المُزمع عقده في الصيف إذا ما سارت الأمور وفق ما هو مخطط لها، وهذا ما يزال غير مضمون.
لكن قبل ذلك ثمّة حاجة ملحة لإتمام الاستحقاق الرئاسي وتركيبة السلطة وملء الفراغات الموجودة.
لذلك باشرت الدول الخمس المعنية تحركاتها منذ مطلع العام الحالي وعلى أساس أنّ الوقت حان لوضع هذا الملف على الطاولة بشكل جدي.
والإشارة الأهم حول جدية التحرك الجديد للخماسية دخول السعودية بشكل مباشر على الخط، وطلبها أن يعقد الاجتماع الرابع لها على أراضيها.
في السابق كانت المعضلة في كيفية إقناع السعودية بالانتقال من المقعد الخلفي الى المقاعد الأمامية، لكنّ السعودية كانت تصرّ على البقاء خلف الستارة ولو مع التمسّك ببقائها في كادر الصورة. والتفسير كان يومها أنّ السعودية تؤكد أنها معنية بالملف اللبناني والازمة الرئاسية ، ولكنها كانت ترى أن الظروف لم تحن بعد لإنضاج الطبخة.
وفي المشاورات اتفاق على صدور بيان ختامي يجري التحضير لبنوده بعناية كي لا يتكرر خطأ الاجتماع الثالث في نيويورك. يومها، ساد الإعتقاد بوجود خلافات قوية جعلت الرئيس نبيه بري يتراجع عن التزامه بعقد دورات متتالية لمجلس النواب متذرّعاً بعدم وجود موقف دولي موحّد.
وستكون استنتاجات جان إيف لودريان موجودة بوضوح في بنود البيان الختامي خصوصاً لجهة تجاوز المرشحين السابقين والذهاب الى مرشح ثالث يختاره اللبنانيون. وكذلك سيلحظ البيان بنداً خاصاً بدعم الجيش ووجوب تعزيزه.
وقد يكون للسعودية اسباب كثيرة دفعتها للانتقال الآن الى مرحلة الدخول المباشر. فالمنطقة تقترب من مرحلة حاسمة لناحية إعادة رسم خارطتها، أضف الى ذلك وجوب مقاربة مرحلة ما بعد حرب غزة بكثير من التيقّن والدراية، خصوصاً أن الساحات السنية على مستوى العالم العربي ستجد نفسها أمام مُعطى جديد له علاقة بحركة حماس والحركات الإسلامية وتلك التي ستدور في فلكها، والاستثمارات السياسية فيها.
وفي لبنان تعيش الساحة السنية حال فراغ قاتل، فكيف إذا مع التقارب الحاصل من قبل «حزب الله» بالجماعة الاسلامية، أضِف الى ذلك علاقته بالتنظيمات الفلسطينية مثل حماس والجهاد. ولا شك في أنّ كل هذه الحسابات المعقدة ستنتج عن المشهد الجديد لمرحلة ما بعد حرب غزة، وهو ما يستوجِب أخذ لبنان الى مرحلة استعادة استقراره وعزله قدر الإمكان عن التأثيرات الإقليمية، هو الذي تعب من هول السنوات الماضية. وربما في هذا الإطار جاء كلام الرئيس نجيب ميقاتي حول تحضير الجنوب لمرحلة استقرار طويلة.
جوني منيّر – الجمهورية