كتبت صحيفة “الأخبار”: قبل تعديلات لجنة المال والموازنة، كان مشروع موازنة 2024 يعكس رغبة الحكومة بالعودة إلى زمن فؤاد السنيورة حين أنفقت مليارات الدولارات بشكل غير شرعي ومن تحت الطاولة، إذ جرى تضمين المشروع احتياطاً مالياً يوازي 26.5% من مجموع النفقات فيما قُدّمت وعود بالجملة للوزراء بأن يوزّع منه على إداراتهم وفق آلية «سلفات الخزينة» التي أنفقت بواسطتها الحكومة نحو 81 ألف مليار ليرة خلال السنوات الماضية بلا أي مساءلة أو رقابة
بحسب ما ورد في فذلكة مشروع موازنة 2024، فإن المشروع بُني على خطة إصلاح مالي وهيكلي متوسطة الأمد من عام 2024 إلى عام 2027 وفق اعتبار أساسي أن «مواجهة أزمة بهذا الحجم تتطلب سرعة في التحرّك». وحدّدت أهداف السياسة المالية بترشيد النفقات وتعزيز الواردات، وأسهبت في الحديث عن التنمية وعن أدوار القطاعين العام والخاص ومعالجة ما أسمته «آفة الدين العام»، فضلاً عن العمود الفقري المتعلق بـ«توحيد أسعار الصرف» والأهم من ذلك كلّه «تحديث العقد الاجتماعي»، فضلاً عن التعاون مع السياسة النقدية من خلال الآليات الضرائبية. وأوردت الفذلكة، في إشارة عرضية، أن «التأخّر في إقرار الاعتمادات اللازمة في ظل التقلبات الحادّة في سعر الصرف، أرغم الحكومة على السير بالعمل بإقرار سلف خزينة خلال العامين المنصرمين، لتسيير المرفق العام، ما يمسّ بعملية ضبط العجز وحسن الانتظام المالي».عندما بدأت لجنة المال دراسة مشروع الموازنة، تبيّن لها أن كل هذه الأهداف تُرجمت في المشروع بشكل مختلف. فالمشروع بُني على احتياط للموازنة بقيمة 78 ألف مليار ليرة، أي ما يوازي 26.5% من نفقات الموازنة المقدّرة بنحو 295,113 مليار ليرة مقابل إيرادات بقيمة 277,924 مليار ليرة وعجز بقيمة 17,189 ألف مليار ليرة. لاحقاً، ومع بدء سير المناقشات ولجوء اللجنة إلى التدقيق في الإيرادات ولا سيما إيرادات الجمارك، تراجع وزير المال يوسف الخليل عن تقديراته السابقة وأرسل كتاباً إلى اللجنة يفيدها بأنه يجب تعديل الإيرادات إلى 320 مليار ليرة، وبالتالي انقلب العجز إلى فائض بقيمة 25 ألف مليار ليرة.
لكن هل هو فائض حقيقي؟ عملياً، لم تُسجّل في الموازنة قيم تُذكر لخدمة الدين بل بحدود 14648 مليار ليرة (164 مليون دولار) فقط، ولا تتجاوز فيها النفقات الاستثمارية 6.7%، ولم يعد فيها عجز الكهرباء بعدما رفعت التعرفات والأسعار وبات التحصيل يوازي تقريباً الإنفاق، وأوقفت منها كل أشكال الدعم. أما الرواتب والأجور، فلم تزد سوى سبعة أضعاف بعيداً جداً عن التضخّم الذي زاد بنحو 55 مرّة، بالإضافة إلى مسألة مستجدّة تتعلق بتهريب النفقات عبر سلفات الخزينة. بهذا المعنى، فإن أي موازنة تقشّفية وغير اجتماعية وتقدّم السلوك «المحاسبي» بوصفه «إصلاحات» يمكن أن يكون فيها عجز ظاهري.
وتبيّن وفق مراسلة رسمية من وزارة المال أن رصيد سلفات الخزينة غير المسدّدة بلغ 41 ألف مليار ليرة، بينما تلقّت اللجنة معلومات مفصّلة بأن قيمة السلفات بلغت 81 ألف مليار ليرة. واللافت أنه «لا يمكن احتساب قيمة السلفات حتى الآن، لأنه لم يتم تصنيفها والتمييز بينها وفقاً لمعايير محاسبة واضحة تشير إلى ما هو مدفوع وغير مدفوع وما هو مصروف وغير مصروف وما إلى ذلك. وهو ما دفعنا إلى إزالة سلفات من مشروع الموازنة لأنها كانت مسجّلة بنحو 3500 مليار ليرة» يقول كنعان.
لا شكّ بأن تقلبات سعر الصرف دفعت الحكومة إلى الاعتماد على سلفات الخزينة لتأمين النفقات، وهي اضطرّت أن تزيد نفقاتها التشغيلية انسجاماً مع التطوّرات النقدية، لكن إذا كان النصف الثاني من عام 2023 قد شهد استقراراً نسبياً، ولو هشّاً، في سعر الصرف، فما هو الداعي لإدراج 78 ألف مليار ليرة كاحتياط في الخزينة؟ يقول كنعان، إن الوزراء صرّحوا أمام اللجنة بأنهم تلقّوا وعوداً بأن يتم تحويل الأموال إلى إداراتهم لتغطية النفقات من خلال السلفات التي ستُوزّع من احتياط الموازنة. «وهنا تبيّن أنه جرى تقليص الاعتمادات من أجل اللجوء مستقبلاً إلى سلفات الخزينة كأداة للإنفاق غير قابلة للرقابة. فالسلفات تُعطى للإدارات والمؤسسات غبّ الطلب ومن دون تبنيدها وفق اعتمادات محدّدة للإنفاق، ما يتيح الإنفاق منها بشكل عشوائي غير قابل للرقابة لا من قبل مراقب عقد النفقات ولا من قبل الجهات الأخرى» بحسب كنعان.
في هذا الإطار، عملت اللجنة على إعادة توزيع جزء من مبالغ احتياط الموازنة. فعلى سبيل المثال، تبيّن أن ما رُصد في اعتمادات الموازنة للصيانة في مطار بيروت الدولي، هو مبلغ 3 مليارات ليرة فقط، بينما وزير الأشغال علي حمية كان يطالب بأن يحصل على ما لا يقل على 250 ملياراً، لذا اقتطعت اللجنة من الاحتياط مبلغ 200 مليار وخصّصته وفق بنود محدّدة للإنفاق على الصيانة في المطار. كذلك الأمر بالنسبة إلى صيانة الطرقات التي كانت تحتاج وفق تقديرات حمية إلى 10 آلاف مليار ليرة، فتمّ نقل نحو 3 آلاف مليار ليرة من الاحتياط إلى هذه الاعتمادات.
تكرّر الأمر نفسه في وزارة الصحة التي أُدرجت فيها اعتمادات بقيمة 7,000 مليار ليرة لكل الأدوية باستثناء الأدوية السرطانية والمستعصية. وزير الصحة فراس الأبيض أبلغ اللجنة بأن كلفة الأدوية المستثناة تبلغ 12,000 مليار ليرة وأن رئيس الحكومة وعده بأن يحصل على المبلغ بواسطة سلفات الخزينة. اللجنة اقتطعت مبلغ 10,000 مليار ليرة من الاحتياط لهذه الأدوية.
في وزارة الطاقة حصل الأمر نفسه، إذ كانت اعتماداتها الإجمالية تبلغ 900 مليار ليرة، ثم رُفعت وفق الاعتمادات المخصّصة لنفقات محدّدة إلى 5,174 مليار ليرة منها استكمال شبكات الصرف الصحي في المناطق، ومشاريع كهرومائية ولمعمل نهر البارد وتنظيف بحيرة القرعون…
أيضاً حصل الجيش اللبناني على 5,000 مليار ليرة إضافية في موازنة 2024 من أجل زيادة نفقاته على الطبابة والمحروقات والتغذية، وبنسب ملائمة أيضاً حصلت قوى الأمن الداخلي على جزء من الاحتياط، وانسحب الأمر على سائر القوى الأمنية والعسكرية.
هذه التعديلات تتعلق ببنية الموازنة المالية، وهي جزء من تعديلات أخرى أجرتها اللجنة على البنود القانونية في الموازنة. «هذه البنود كانت بغالبيتها استحداث ضرائب ورسوم جديدة وتعديلات على ضرائب ورسوم قائمة. كانت عشوائية ولا تعتمد سعر صرف واحداً، بل جرت تعديلات انتقائية بلا خلفية أو رؤية اجتماعية واقتصادية، وهي أصلاً مخالفة للمادة 81 من الدستور التي تفرض إرسال مشروع ضريبي متكامل ومستقلّ إلى المجلس النيابي. بعض الضرائب زيدت من 10 أضعاف مثل رسوم السير إلى40 ضعفاً لرسم الطابع المالي و186 ضعفاً على المواد الكحولية المنتجة محلياً، وصولاً إلى رفع رسوم التسجيل التجارية 25 ألف ضعف ورسم تسجيل شركة الأشخاص 50 ألف مرّة ورسم تسجيل شركات الأموال 150 ألف مرّة. واستمرّت محاباة شركات الأموال، إذ تُكلَّف بنسبة 17% على كامل أرباحها، في حين يبلغ معدل ضريبة الدخل على الرواتب والأجور وسائر المداخيل 25% على الشطور التي تزيد على 2.45 مليار ليرة».
في المحصّلة ألغت اللجنة الضرائب والرسوم المستحدثة ثم عمدت إلى توحيد الزيادات الضريبية ربطاً بمؤشر التضخم، فتمّت زيادة الرسوم 46 ضعفاً، وكل ما يتعلق بالشطور والتنزيلات الضريبية جرت زيادته 60 ضعفاً». لكن يبدو من هذا المشروع أن هناك رغبة في العودة إلى زمن فؤاد السنيورة، أي زمن الفوضى المالية عبر الإنفاق تحت الطاولة.