الجمعة, نوفمبر 22
Banner

«لحظة… يا زُعَماءَ الشِّعر»! مأساةُ الضياع بين الخلَف والسّلَف!

صدر كتاب النقد الجديد «لحظة يا زُعَماءَ الشّعر « لعبد الغني طليس، وفيه أبحاث نقدية تتناول ثلاثة عشر شاعراً من الروّاد الجدد والأقدمين، وقيمة ما فعلَ الخلَف بإرث السّلف…

هنا دراسة في الكتاب عن جبران خليل جبران:

هل يستطيعُ ابنُ آمرأةٍ اليوم، بذريعة «روح العصر»، أن يقول للشاعر العربي أبي تمّام إنكَ حين قلتَ «السيف أصدَقُ إنباءً من الكتُبِ».. كنتَ تقصدُ «السيفُ أصدقُ إعلاماً من الكتُبِ».. لأن زمننا هذا زمنُ الإعلام، وعليه سنصحّح خطأك في كتبنا المدرسية والجامعية، وسنطلب من الدراسات المستقبلية عنك يا أبا تمّام أن تعتمدَ هذا التصحيح لأنه يناسب «العصر»؟

إنّ جزءاً أساسياً من قيمة أي نصّ أدبي، هو العصر الذي ينتمي إليه لأنّ «روح» ذلك العصر فيه، وليس لنا أي حقّ في أن نغيّر ونبدّل مع كل عصر، كتابات شهيرة، دخلَت التاريخ، تحت حجة روح العصر «الجديد». ودائماً هناك عصر جديد! نفهَمُ أن بعض الأعمال المسرحية لشكسبير أو غيره، يعاد توليفُها مع إسقاطات معاصرة أحياناً، لكنّ النص الأدبي شيء آخر مختلف تماماً، شيء مغمور بحساسية صاحبِه الأصيل وتعابيره ومفرداته ومزاجه النفسي واللغوي…

بعنوان «روح العصر» يقدّم الشاعر هنري زغيب ترجمته الجديدة لكتاب «النبي»، وهذا التعبير استخدمه قبله الشاعر العراقي سركون بولس ليبرّر تصرُّفَهُ ببعض المفردات والعبارات الجبرانية الخاصة، بحيث جعَلَها في الترجمة بأسلوبه هو. هنري زغيب ذهب أبعد بالقول إنه لم يترجم بل «صاغَ» النصوص، والصياغة تعني أنه تدخّل جدّياً وعميقاً إلى الحد الذي يمكن القول إن هذا «النبي» يكاد يكون، أكرر يكاد يكون «نبي» هنري زغيب بالإشتراك مع روح… جبران خليل جبران! بوضوح: إن «روح» زغيب هي المسيطرة، في التراكيب اللغوية، وفي الشطارة البلاغية، وفي القطع والوصل بين الجُمَل.

على أنّ الملاحظة الأعجب هي استخدام كلمة «الحب» مكان كلمة «المحبة» في النص الذي تَسألُ فيه «المِيتْرة» عن المحبة. وتبرير زغيب في تغيير الكلمة أن الحرارة في نَص المحبة الجبراني دليل على أن جبران أراد «الحب» لا «المحبة». هو نفسُه تبرير سركون بولس وقبله الأب يوحنا قمير. لكن الجواب الجامع المانع واضح وبديهي وهو، طالما أن جبران خليل جبران نفسَه قرأ ترجمة الأرشمندريت أنطونيوس بشير عام ١٩٢٣ ووافق عليها (على الترجمة وفيها كلمة «المحبة» لا «الحب») فمَن نحن لنقول لجبران اليوم إنكَ قصدتَ الحبّ لا المحبة، ونحن أعلم منك بما كان في خاطرك، وبما جاء في نصّك؟!

ودائماً، جبران مادة دسمة في الأدب العربي منذ قرن كامل، وهناك جدَل وأبحاث حول شخصيته وأدبه ورسومه وفلسفته، لكن بلا نتائج مُبَيَّنَة، فلا شخصيتُه توضّحت تماماً، ولا أدبُه شبِع من التنقيب، ولا رسومه تفكّكَت أسرارها، ولا فلسفتُه استقرّت على ضوء.

وجبران بالنسبة إلى اللبنانيين نَهرٌ متدفّقٌ فلسفةً ونثراً فنياً راقياً وقصصاً ورسماً وشخصيةً. الآن يشبه رمزاً من الرموز المسيحية (والوطنية طبعاً) المقدّسة مع أنه ظلّ لسنوات على علاقة مقطوعة أو مأزومة بالكنيسة جرّاء و جزَاء كتاباته الداعية إلى خروج الإكليروس من الخوض في حياة الناس اليومية وتوظيف ذلك في الهيمنة على شؤونهم، ودعوة المجتمع إلى التمرّد .تجوز في جبران جميع الألقاب الأدبية والفكرية والفلسفية التي أُطلِقَت عليه بإكبار إلّا لقب الشاعر الكلاسيكي. فهو إذا كان في كل العالم على شهرةٍ غامرة ويحبه القراء لأسباب إبداعية شتّى، فقد كان شاعراً (في الموزون المُقفّى) ضعيفاً جداً لم يقدّم في الشعر قيد أُنمُلة جمالية مما قدم في كل فنونه. وأغلبُ الظنّ أن ميله إلى هذا الشعر كان تطفّلاً أكثر مما هو موهبة حقيقية. وتوجُّهُه إلى كتابة الشعر حصل تشبّهاً ببعض زملائه في «الرابطة القلمية» وبعض شعراء المهجر، الذين كانوا مُقَدَّمين عن غيرهم من الكتّاب، لدى الجمهور اللبناني والعربي في الولايات المتحدة الأميركية ارتباطاً بما لدى الذائقةِ العامّة في بلادنا من تكريم للشاعر، في كل زمان وعبر السليقة التاريخية.

إن كل من يقرأ حياة جبران خليل جبران من دون أن يقرأ أُمَّهُ كامْلة رحمة، وبصورة كامِلة أيضاً، سيبقى مقصّراً عن المعرفة، وسيبقى سَعيُه غير مبني على الصخرة التي استند إليها جبران في المفاصل الكبرى في حياته وشمّ رائحة المحبة والقوة منها، ودخل التاريخ بسببها. لقد كانت كامْلة امرأة قديرة، صلبة، ذكية، تفكر بطريقة سليمة تحفظ فيها العائلة والأولاد، وعند اتخاذها القرار لا يقف في وجهها أحد، ولا تَرُدّ على أحد. فكما كان جبران يسمع حفيف كلماته قبل أن يكتبها، كانت كاملة تسمع وحي ضميرها وعقلها يحدثانها بالأمور.

كامْلة هذه، منذ أنجبت ابنها جبران وهي في الثلاثين، أنجبَت معه فكرةَ أنّ ابنَها هذا سيكون اسماً كبيراً، وكان.

قرارها بالهجرة ما كان ارتجالياً بعد طفْح آنيَة الحياة المضنية في لبنان أيام العثمانيين إِثْرَ سَجن زوجها، ولا كان نزوةَ أُمّ تأكدت ان البقاء في لبنان مستحيل والعيش فيه أكثر استحالة، وإنما جاء بعد معاناة كأْدَاء مع ذلك الزوج السكّير العربيد المُجَرَّص الذي أُدينَ باختلاس أموال (١٨٩٢) وقُبضَ عليه، فأصبحت كامْلة عرضة للعيون اللاعبة والنفوس الصاخبة.

جبران كان في الثانية عشرة من عمره، فأدخلته أُمه المدرسة في بوسطن حيث نزلَت.. ولم يمضِ وقت طويل حتى تعرّف إلى المصور الشهير فْرِد هولند داي الذي كان محترِفاً وخبيراً في التصوير فوجد في أنامل الشاب اللبناني موهبة في الرسم، وفي خياله متّسعاً من الأحلام، فراح يعتني به ويُمضي وقتاً في توجيهه، ويعتمد عليه في بعض أموره رغم فتوّته المبتدئة غير المجرّبة. علمت كاملة، بانقضاء فترة، أن فْرِد هولند داي ذو ميول مِثْلية، وتأكدت من ذلك فهبّت في أوصالِها غريزة المرأة التي تريد حِفْظَ ابنها في أكمل صورة من العنفوان والرجولة فطلبت الى جبران الاستغناء عن العمل مع هولند داي فلم يعترض، وفي الوقت نفسه يقال إن جبران كانت لهُ معلّمة في المدرسة في الثلاثين من العمر أًعجبَت به وأُغرمَت وأقامت معه علاقة جنسية (وهو في الرابعة عشرة على ما تقول الرواية) فشعرت كامْلة أن جبران يجب أن يبتعد عن هذا المناخ الفالت الذي يعيش فيه وتَجب أعَادَتْه إلى لبنان (١٨٩٨) ليستفيد فيتعلّم العربية كما ينبغي. وهذا النوع من قرارات «الإبعاد» كان دارجاً في ذلك الزمن، فكل عاشق (أو عاشقة) يراد له الأفتراق عن حبيبه فيصعب عليه ذلك، كان الأهل يهرّبونه بعيداً إلى بلاد الإغتراب. كامْلة رحمة لم تستنبط قرارها من فراغ، بل من عاداتنا والتقاليد. وحضر جبران إلى لبنان.

درس العربية في لبنان لثلاث سنوات، ثم عاد إلى أميركا فبَدأ تفجّر المواهب التي كانت متفرّقةً شتّى، وتحصّن بالخبرة وإتمام دراسة الرسم في فرنسا ثم العودة الأخيرة إلى أميركا (١٩0٢) حيث عاش عيشة الفاتحين فنياً. أمّا كامْلة فماتت بعد سنة فقط!

ولعل ما يلفت الانتباه بقوة، بالجودةِ والحساسيّة اللغوية الراقية، هو أن الكِتَابَ الأكبر، قيمةً إبداعية وشهرةً أي «النبي» الذي كتبه جبران بالإنكليزية، ترجمَهُ إلى العربية الأرشمندريت انطونيوس بشير (وهو عالِم لاهوتي لبناني ومُحاضِر وخطيب مُفَوّه ورئيس أساقفة لبنانيين في أميركا في ذلك الزمن) فكان غاية في الإمتاع والمؤانسة، والدقّة، والروحية الإنسانية الخالصة، بلُغةٍ لاهوتية صَلاتية، لا تختلف عن لُغة جبران الأدبية في ما كَتب باللغة العربية. وهذه مسألة لم يتم الإضاءة عليها كفاية. إن ترجمة أنطونيوس بشير اللصيقة بالأصل الجبراني، بالإضافة إلى هندسة الجُمَل والتشبّع بالجماليات كلاماً ونسَقاً وإيقاعاً هادئاً محسوساً بالذائقة، سمح لهُ كمترجمٍ مُبدِعٍ وفنانِ تَعبير، بإبقاء أفكار جبران سليمة، دقيقة، بعيدة من «الأذى» على أسلوبه.. وهويّتة الأدبية التي كانت «جديدة» نسبياً وليست معروفة على نطاق واسع ولم تُخْتَبَر كفايةً مع العامة. بشير كان كبيراً ومؤسِّسَاً في مسيرة الكِتَاب. والمرتبة الكنسية التي كان يتبوأها الرجل، والمزايا الشخصية العلْمية والأدبية التي اجتمعت فيه كانت عنصراً خلّاقاً في ترجمته. ولم يُعرَف ما إذا كان بشير قد حصل على إذن خاص للترجمة ،من البطريركية المارونية التي كانت تنظر إلى جبران يومها على أنه مناهِضٌ لها ويهاجم رجالها وأفكارهم بطرق مستفِزّة (وهناك من قال إنها ألقت عليه الحُرم). وفي النتيجة: آراء جبران السلبية في الإكليروس، لم تقترب يوماً، ولا أيّ يوم من صورة المسيح. كان المسيح وبقي مصدر إلهام روحي ومعنوي وأدبي له طوال حياته.

أسئلتي عن جبران خليل جبران كثيرة، وهي أسئلة مشروعة، بعضها مطروح والآخر كأنه محفوظ في خزائن كتُب عليها «ممنوع الدخول».

أوّلاً: لماذا كانت ولا تزال الأجيال، تميل في لبنان إلى قراءة جبران في مرحلة المراهقة والشباب.. ثم يتمّ الغياب عنه من الثلاثين صعوداً ليعودوا إليه في الستين والسبعين؟

لا شكّ في البداية بأن أسلوب جبران في الكتابة يرقص فرحاً أو ألماً. لغتُه عميقة ورقيقة تسمح له بوصف ما يريد بدقة ووجدانية حتى لكأنك ترى الأشخاص والمَشاهد بأمّ عينك وهُم وراء الكلمات. وأحياناً تتحسس آلامهم وأفكارهم كأنك معهم. وتفضّل دائماً لو لم تنتهِ هذه القصة أو تلك لشدة انسجامك وتعاطفك والتصاقك بما يجري فيها. إنّ قصص جبران العاطفية (الأجنحة المتكسّرة/ الأرواح المتمردة/العواصف/ الخ..) التي تتحدث عن أشخاص في عمر الحب الأوّل هي الجاذب الثاني، بعد اللغة الحيّة النابضة بالتشابيه والاستعارات الذكية التي تَمَكَّن بها جبران من نقل «الواقع» الغرامي الطاهر النقيّ المعذّب بلغة تجمع الواقع والخيال في قصص محدودة الحجم لا يُداخلُها تطويل، وجَنّد لها كل فكره وأعصابه وقدراته لتُحدِثَ الهزة في النفس المتعاطية مع نفوس الآخرين على الورق. ودائماً فئة الشباب جاهزة للتناغم مع روايات الحب المشتعل بالدراما أو بالرومنسية الدافئة، والقلق على الحبيب. ومع أن جبران يتناول قصصاً من بيئة مسيحية ،وهجومه على الإكليروس مرتبط بمفاهيم عوجاء وبسلوكيات مرفوضة كانت سائدة ،فإن القارئ يُسقِط هذه الأفكار على بيئته الخاصة الدينية كائنة ما كانت ديانته، ويشعر بأنه معني مباشرة بما يرِدُ في الحكاية، ونحن نتحدث عن عمر طري لكنه رفضيّ لكل قاهر مهما كانت مضامينه. والرفض سمةُ الشباب الأولى..

ما أن يغادر الشاب الحب الأول ويمضي بخَوض تجاربه الأخرى منخرطاً في العمر أكثر فأكثر، حتى يذوب أثر جبران في داخله ويتحوّل صُوَراً تأسيسيّة لأفكار تتردد أصداؤها من وقت إلى آخر في الذات السحيقة، ويصبح نوعاً من النوستالجيا..

ويتفرّق المزاج الشخصي بين العمل والدراسة العليا والمهنة والزواج والأولاد و.. و.. حتى تصل الستون والسبعون فيعود الواحد منا إلى قراءة جبران، من بعيد هذه المرّة، والقراءة هنا تحدُثُ بالعقل لا بالأحاسيس فيتم اكتشاف جبران للمرة الأولى على أساس أن القراءة الأولى كانت ممتزجة بانفعالات شبابية فوّارة متعاطفة مَليّاً وبلا هوادة، فتكون القراءة الثانية هي القراءَة الأولى الجدية لجبران، وتجلس القراءة الأولى مع الذكريات العُليا التي لا تلعب فيها يد الزمن كونها أصبحت خارج الزمن.

السؤال الثاني: لماذا يصرّ بعض الكتّاب المؤرّخين لحياة جبران خليل جبران على إعطاء صورة مثالية عنهُ، بمنأى عن الحميمية الجنسية، في موضوع العلاقات العاطفية التي قامت بينه وبين سيدات أميركيات أو لبنانيات مقيمات في الولايات المتحدة.. وفي آخر إحصاء كان عددهنّ عشر عاشقات؟

هذا السؤال يحيرني لأن جبران، حسب الوصف الذي يقدّمونه في الكتُب، مندفعٌ مع النساء ومُتَحابّ حتى أحياناً يبدو طَمّاعاً بهنّ.. بينما يكتبون أنه متَعفّف. وتدعم «الفكرة» أغلب الروايات عن تعرّفه على سيدة أو أخرى، يعقبها «كلام فَوري» يقول إنه أقام علاقة جنسية معها من بعد اللقاء الأوًل، وأغلب النساء اللواتي تعرّفن عليه كانت لهنّ ميول حسّية تجاهه ظهرت بين الأحرف الأولى من الحوار بينهما، أو من السطور الأولى للكلام «التأريخي» عنه.. (وكله في الكتُب!) فهل يرغب المؤرخون في منحه هوية مترفّعة عن المعجبات اللواتي هِمْنَ به بشدّة، ونَوَينَ على نَيْلِه وتحلّقن حول شخصيته كأنه لعنة، ليبدو في «التعامل» مع محيطه النسائي سوبرمان عِفّة.

يجب أن يحدّد رواة سيرة جبران خليل جبران ماذا يريدون منه في هذه النقطة بالذات، وللمرة الأخيرة لكي لا يبقى معلّقاً كرجُل ،على أمانيهم له أو تقديراتهم لرغباته…

في ذكريات الصحافي اللبناني في أميركا، فؤاد خوري (من كتاب لهنري زغيب) وهو عايش جبران في أوقات كثيرة، يقول: جبران.. جبران كان شخصية حلوة.. وبيحبوه الستّات. كان نجم نساء.. و«متل ما بدَّك». والجُملة الأخيرة بالتعبير الشعبي اللبناني «واضحة المغزى»!

والسؤال الأخير: لماذا في كل لوحات جبران التي تعرِضُ نساءً عاريات بأشكال مختلفة، وأوضاع مختلفة، لم تظهر على أي واحدة منهن ملامحُ إغراء وإغواء مثير؟ وكلّهن صبايا! وفي أعمار تضجّ أنوثة! إن كل اللوحات ،وحين أقول كلها أعني الكلمة، يتضمن عُرياً واسعاً لكنّ معنى العُري يأتي حياديّاً بارداً. جسَد المرأة في أغلب الفن التشكيلي حامٍ وناريّ ومتدفق، أمّا عُريُ النساء عند جبران فأصمّ أبكم لا يوحي شيئاً ولا يقول شيئاً، كأنه تمثال (حتى تماثيل النساء تنضح تعبيراً). وتمرّ به متسائلاً مستغرباً مستهجناً كيف يعقل أنّ عيون النساء العاريات أيضاً ممحوّة وضائعة، ونظراتها «غائمة» في لا مكان ولا زمان.

ولو أنها لوحة واحدة أو اثنتان أو أكثر قليلاً على هذا النحو، لأدركْنا سبباً، أما كلّ اللوحات ،وفيها الأجساد النسائية والرجالية المتعددة «طائرة» فوق الأجساد النسائية والرجالية، فهذا يبعث الفضول الفني المُلِحّ!

ولأنه لا وجود لمقابلات صحفية أُجريَت مع جبران في أميركا خلال أيام حياته الأدبية والفنية الناشطة، ولا سؤال ولا جواب إلى اليوم حول مسألة الطهرانية وغياب الرغبات في الأجساد العارية وفي الوجوه، ضمن اللوحات، فتحليلي الشخصي أنها أرواح لا أجساد. أكثر هذه اللوحات تعرِضُ أجساداً عارية مُلقاة على الأرض (هم الموتى) أمّا الأجسادُ العارية التي تبدو في وضعية الطيران (غير واقفة على الأرض) فهي أرواح الأجساد المُلقاة أرضاً لذلك تبدو خالية من أي تعبير أنثوي أو اشتهاء أو ملامح جنسية. فالروح بالنسبة إلى جبران طاهرة ونظيفة وناصعة ولهذا رسمَها بهذا الأسلوب المُصفّى من كل ما هو أرضي! هي أرواحٌ عارية بهيئة أجساد صاعدة.

بين هلالين: يحلو لبعض السياسيين في لبنان أن يتذكروا جبران في مقولته الشهيرة «لكم لبنانكم ولي لبناني» ليميّزوا أنفسَهم في السياسة، ولإعطاء أنفسَهم وجماعاتهم الأفضلية الوطنية، على الآخرين. يا سادة يا كرام لم يقصد جبران ما قصدتم أنتم. والتدقيقُ في التعبيرِ الرائعِ، أغنانا الله عن ذلك، سيعرّيكم كطغمة فاسدة حكمَت بالطائفية فلم تُبقِ ولم تَذَر في ركائز الدولة.

وبالإذْن: ينزعج كثُر من اللبنانيين اليوم عندما يستعيدون خطابات جبران الوطنية بسبب ذكر سوريا مرات عدّة.. فيا سادة حين كان جبران يتحدّث عن سوريا ويقصد كذلك لبنان، في رسائله التي تحمل بُعداً تحرريّاً ثوريّاً (أيام الإحتلال العثماني وكذلك أيام الإنتداب لفرنسا التي لم تكن بالنسبة إليه «الأُم الحنون») كان لا يرى سوى النير الراخي عَجيزته وقدميه على البلاد كلها ويمعنُ فيها تخريباً وإذلالاً وتتريكاً بشعاً وفَرْنَسَةً. فهل نُشفق عليه بعدم ضمّه إلى أحد طرفيّ الخلاف السياسي القائم حالياً بين لبنان وسوريا، لأنّ الحكمُ الحالي في سوريا -لمن نسيَ- لم يكن قائماً بعد!

أيّها اللبنانيون… إرحَموا جبرانكم في شخصيته وعبقريته واتركوه تحت التراب، وفي السماء الأدبية العالمية، يعيش مع الأرواح المتمرّدة، ولا بأسَ أن تستمروا في الظنّ بأنه، من دونكم، سيغدو من الأجنحة المتكسّرة!؟

عبد الغني طليس

Leave A Reply