انسداد الأفق أمام تحقيق الاهداف الاسرائيلية من الحرب على غزة بعد ثلاثة أشهر ونيف من الحرب المدمرة التي تشنها القوات الاسرائيلية ضد القطاع ادت الى انفجار الخلافات والتناقضات ضمن كل من المؤسسة السياسية والمؤسسة العسكرية وبينهما ايضا. من جهة، برزت انتقادات لقادة كبار في الجيش قوامها ان إسرائيل غير قادرة على تحقيق اهدافها، وردّ الناطق باسم المؤسسة العسكرية مصرحاً بان هذا الكلام لا يمثل الموقف الرسمي للجيش. يظهر ذلك حال الارتباك في ما يتعلق بتحديد اهداف الحرب والاستراتيجية والقدرة على تحقيق تلك الاهداف. كما انفجر الخلاف في حكومة الحرب أو المجلس الخماسي لادارة الحرب مما يهدد بشلّ دور هذه الحكومة المصغرة المعنية بادارة الحرب. من مظاهر هذا الخلاف المستفحل والذي يعكس الاختلافات المتزايدة في الجسم السياسي والحزبي الاسرائيلي، الدعوة الى اسقاط نتنياهو وتشكيل حكومة انتقالية لفترة عام بقيادة الجنرال ايزنكوت العضو في حزب معسكر الدولة الذي يتزعمه بني غانتس، والذي تزداد شعبيته يوميا على حساب حزب الليكود الذي يتزعمه نتنياهو. ايزنكوت الذي رفض رئاسة الحكومة بهذه الشروط ولالتزامه بموقف حزبه دعا، كما حزبه، الى اجراء انتخابات مبكرة لتغيير الحكومة. يعكس ذلك ازدياد الفجوة في المواقف وفي مقاربة الحرب الدائرة بين اطراف المؤسسة السياسية التي تطغى عليها بشكل شبه كلّي احزاب اليمين الاسرائيلي الديني والتقليدي .وفي السياق نفسه، تظهر الخلافات المتزايدة بين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت حول ادارة الحرب، وتحميل الاول مسؤولية الفشل للجيش.
تستفحل الخلافات بقدر ما يتكرس الانسداد بشأن تحقيق الاهداف الإلغائية التي رفعتها الحكومة في ما يتعلق بحركة “حماس” خصوصا والتغيير الكلّي للوضع في غزة بشكلٍ عام تحت عنوان التهجير الطوعي، وهو التهجير القسري من خلال العمل على فرض الظروف لذلك، والسيطرة على غزة بشكل اشمل. نتنياهو كان واضحا في رده على دعوة الرئيس الاميركي لحل الدولتين. الحل الذي هو عنوان او شعار يلوّح به بين الحين والآخر من دون اي تصور فعلي وعملي للوصول الى تحقيق هذا الهدف، فيما تستمر السياسة الاسرائيلية في نسف الاسس على الارض التي يُفترض ان يقوم عليها هذا الحل. نتنياهو اعلن مرارا موقف المؤسسة السياسية الاسرائيلية بكافة اطيافها بهذا الخصوص: لا دولة فلسطينية لا بل ان إسرائيل تود السيطرة الامنية الكاملة على غزة بعد القضاء على “حماس” حماية للامن الاسرائيلي. والجدير بالذكر ان الحديث عاد مجددا عن اعادة الاستيطان الى غزة خدمة لهذه الاهداف الامنية والاستراتيجية من المنظور الاسرائيلي. ويقول الكاتب والمؤرخ الاسرائيلي المعروف بمواقفه المؤيدة للسلام، شلومو ساند، في هذا الصدد، ان هدف إسرائيل هو جعل غزة غير صالحة للسكن، فالتخلص من الديموغرافيا الضاغطة يساهم في السيطرة على الجغرافيا المهمة في استراتيجية الامن الاسرائيلي بشكل افضل.
ما زال سقف الاهداف الاسرائيلية مرتفعا بشكل كبير وغير قابل للتحقيق في غزة، الامر الذي يعزز استمرار الحرب ضمن أفق مفتوح. وقد بدأت إسرائيل المرحلة الثالثة من حربها بعد مرحلتي التدمير المكثف والاجتياح وهي مرحلة العمليات المركزة او ما يُعرف بالضربات الجراحية والعمل على الفصل بين شمال القطاع من جهة ووسطه وجنوبه من جهة اخرى بغية السيطرة الكلية على الشمال. وعلى صعيد آخر، يزداد الضم الصامت للضفة الغربية، كما تصف الوضع السلطة الفلسطينية، من خلال تسريع عملية تهويد الجغرافيا والديموغرافيا في تلك المنطقة استكمالا لتحقيق قيام إسرائيل الكبرى من نهر الاردن الى البحر الابيض المتوسط. ويتواكب ذلك مع ازدياد “حماوة” الحرب الدائرة في الجنوب اللبناني بسبب الترابط الوثيق القائم بين الجبهتين الغزاوية واللبنانية، الامر الذي يزيد من تعقيدات النزاع على الجبهة الاخيرة ومن صعوبة، وليس بالطبع استحالة، التوصل الى تفاهمات ناظمة لقواعد اشتباك جديدة، في ظل الاهداف العالية السقف التي تُطرح، مع عدم الاستبعاد الكلّي لمخاطر الانزلاق نحو حرب مفتوحة اذا استمرت الامور على ما هي. حرب تسقط قواعد الاشتباك القائمة والمستمرة والتصعيد المتوازن في اطارها مع بدايات الخروج الاسرائيلي عن تلك القواعد مع اغتيال القيادي في “حماس” صالح العاروري في الضاحية الجنوبية لبيروت. تفاهمات جديدة يمكن ان تتبلور مع الوقت لوقف القتال تؤسس لقواعد اشتباك جديدة، يرى الكثيرون ان الشرط الضروري وغير الكافي بالطبع للتوصل اليها يكمن في وقف الحرب على غزة .
كل المؤشرات تدل على ان الحرب مستمرة ولو قد تشهد تصعيدا او تخفيضا مع الوقت وهدن استراحة، ومعها ايضا الحروب بالوكالة: حروب الاسناد والرسائل المتبادلة والضغوط الجارية من العراق الى اليمن الى البحر الأحمر الى سوريا بدرجات واشكال مختلفة.
شرط الخروج من حالة الحرب هو فرض وقف اطلاق النار. نقول فرض ذلك لان إسرائيل ترفض هذا الامر وعلى الاطراف الدولية المعنية بالاستقرار في المنطقة والقادرة بسبب قدراتها ومصالحها وعلاقاتها ان تفرض ذلك على إسرائيل وتعيد إحياء مسار السلام على اساس حل الدولتين .ليس ذلك بالامر السهل، ولكنه ليس بالامر المستحيل. المطلوب ليس احياء مسار اهدافه غامضة وفضفاضة وقابلة لتعريفات واهداف مختلفة ومتناقضة كما شهدنا في الماضي، بل تحديد الهدف النهائي (حل الدولتين) وفق قرارات الشرعية الدولية والالتزام به ورعاية ومواكبة المسار التفاوضي على هذه الاسس وضمن جدول زمني يُتفق عليه.
لا شك في ان دون ذلك الكثير من الصعوبات والعراقيل وبشكل خاص وكبير من الجانب الاسرائيلي. ولكن متى وُجدت الرؤية والارادة الدولية والاقليمية من طرف القوى المعنية بالاستقرار الاقليمي والفاعلة، يصبح تحقيق ذلك الهدف ممكنا ايا تكن العراقيل في طريقه .والبديل من ذلك كما علمنا تاريخ هذا الصراع، هو نوع من الهدن القصيرة او الطويلة او اعمال وقف للنار لا تصمد طويلا امام سياسات اسرائيلية توسعية باسم عقائد اصولية ومتشددة. المستقبل القريب سيدل الى الطريق الذي ستسلكه الحرب الاسرائيلية وتداعياتها على الاقليم الشرق الاوسطي بأشكال وأوقات مختلفة…
الدكتور ناصيف حتي – النهار