ما من شك بأنّ الإدارة الأميركية تتولّى مهمّة الدفع لتضييق الخناق على الحكومة الإسرائيلية بغية الانتقال من مرحلة الحرب الى مرحلة إنجاز تسوية سياسية بين الإسرائيليين والفلسطينيين ترتكز على مبدأ الدولتين.
وهذا الدور الأميركي الخفي يعمل على مستويين، الأول على الساحة الدولية، والثاني على مستوى الساحة الإسرائيلية. ذلك أنّ هامش الوقت يضيق أكثر فأكثر أمام الرئيس الأميركي جو بايدن، بعدما باغته المشهد الإنتخابي الداخلي، ما يجعله ملزماً بالتفرّغ لحملته الإنتخابية والتي بدأت بشكل مبكر.
فالانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري المناوئ انتهت مبكراً جداً وقبل أوانها، بعدما حُسمت بطاقة الترشح مبدئياً وواقعياً لخصمه الشرس دونالد ترامب. وبايدن الذي يأمل بتحسن إقتصادي، سيعمل لتوظيفه لصالح حملته الإنتخابية، يدرك أنّها من المرات القليلة جداً في تاريخ الإنتخابات الرئاسية، والتي يشكّل فيها ملفاً خارجياً وبنداً أساسياً يؤثر في اتجاهات اقتراع الناخب الأميركي.
وبالتالي، فإنّ إدارة بايدن تتطلّع الى ضرورة تحقيق إنجاز تاريخي في الشرق الأوسط عجز عنه معظم أسلافه، بمن فيهم ترامب نفسه، ليرتكز عليه في حملته الانتخابية، الى جانب معطيات إقتصادية بدأت تتراكم لصالحه، والتصويب على الملفات القضائية المفتوحة لترامب، وتصويره كمهدّد للديموقراطية الأميركية.
من هنا، فهنالك من يجد في قرار المحكمة الدولية عاملاً يفيد حركة واشنطن تجاه الحرب في غزة، ومن دون إغفال احتمال وجود بصمات أميركية خفية دفعت في هذا الإتجاه.
كذلك تصاعد الضغط الأوروبي على حكومة نتنياهو للذهاب في اتجاه مرحلة التسويات. ولا حاجة للإشارة الى أنّ الحكومات الأوروبية التي تضغط في هذا الإتجاه هي حكومات حليفة للإدارة الأميركية، والتي تخشى هي أيضاً عودة ترامب الى البيت الأبيض من ناحية بسبب علاقته «الغامضة» بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومن جهة ثانية لتجنّب تلقّي أحزاب اليمين المتطرّف الأوروبية والآخذة بالتصاعد شحنة دعم هائلة تجعلها قادرة للوصول الى السلطة.
وفي الداخل الإسرائيلي إندفاعة للمعارضة بوجه نتنياهو مع تصاعد الدعوات لإقالته، وتبدّل لهجة وسائل الإعلام الإسرائيلية، الى جانب تحرّك أهالي الإسرائيليين المحتجزين، وإبراز المخاطر الإقتصادية جراء إستمرار الحرب.
باختصار، ثمة أجواء تصاعدية ضاغطة لدفع نتنياهو لقبول الذهاب الى التسوية السياسية، والتي ستعني ضمناً إنجاز تسوية سياسية عريضة تنتح معادلة جديدة في الشرق الأوسط أو ما بات يُعرف بخارطة نفوذ سياسي جديدة.
لكن المشهد محفوف بالمخاطر. ذلك أنّ نتنياهو «المحاصر» داخلياً ودولياً، والذي يخشى ما ينتظره بعد انتهاء الحرب، لا يزال يمسك بأوراق قوية في يديه. فوفق آخر استطلاعات الرأي، بدا أنّ أكثر من 60 بالمئة من الاسرائيليين ما زالوا يعطون الأولوية لاستمرار الحرب ولو على حساب إطلاق المحتجزين. كذلك فنتنياهو يعرف جيداً أنّ ظهره مكشوف بسبب وزراء اليمين المتطرّف، ما يعني سقوط حكومته فور موافقته على الحل السياسي القائم على قيام الدولتين.
والأكثر تعقيداً هو خشية البعض من أن ينزلق الوضع باتجاه توسع دائرة الحرب عن قصد أو عن سوء حساب لأهداف متعددة، ومنها مثلاً إجهاض الولادة الجديدة للشرق الأوسط، ومساعدة ترامب على العودة الى البيت الأبيض، وهو ما سيعني لاحقاً نشر الفوضى في أوروبا.
هنالك من يعتقد أنّ لموسكو مصلحة في ذلك، وأيضاً للأطراف التي ذابت بعض تطلعاتها في جحيم حرب غزة.
تكفي الإشارة مثلاً الى المناورة العسكرية التي يجريها حلف الناتو، والتي تُعتبر الأكبر منذ انتهاء الحرب الباردة، والتي يشارك فيها حوالى 90 ألف جندي، و50 سفينة حربية و80 طائرة حربية وأكثر من 1100 عربة قتالية، وحيث حملت هذه المناورة إسم «المدافع الصامدة 24». والأهم أنّ هذه المناورة مخصّصة لاختبار دفاعات الناتو في مواجهة روسيا. كما أنّها تأتي بعد إقرار استراتيجية جديدة خلال المؤتمر الأخير للناتو والذي تضمّن إعادة تحفيز وتوسيع القدرات العسكرية للحلف. ومع عدم إغفال بدء خطوات إعادة توسيع قدرات الجيش البريطاني لمواجهة روسيا. مع العلم أنّ ترامب كان قد باشر خلال ولايته خطوات لتجاوز حلف الناتو.
واستطراداً، فإنّ تطورات حرب غزة لا ترخي بنتائجها على مستقبل الشرق الأوسط فقط، بل على أوروبا والصراع مع روسيا من خلال الانتخابات الرئاسية الاميركية.
ولأجل ذلك ضغطت واشنطن ومعها العواصم الأوروبية لإبقاء الحرب الصغيرة المفتوحة في جنوب لبنان تحت سقف منخفض. ففي استثمار الحروب تصبح التقاطعات السياسية متشابكة وتصعب معها القراءة. أليست هذه دروس الحرب العالمية الثانية حين تحالف هتلر في البداية مع ستالين ونظامه الشيوعي قبل أن ينقلب عليه لتتحالف لندن وواشنطن مع موسكو؟ وأيضاً تلك التقاطعات التي فرضتها ظروف الحرب بين برلين وطوكيو؟
المهم أنّ وزير الخارجية الأميركي انتوني بلينكن كان قد اعتبر أنّه حقق إنجازاً خلال جولته الأخيرة في المنطقة، حين انتزع تعهداً من نتنياهو بعدم الذهاب الى حرب واسعة في لبنان.
وعلى المقلب اللبناني عاد المفاوض الأميركي أكثر اطمئناناً، حين سمع من الرئيس نبيه بري أنّ «حزب الله» لا يسعى للحرب لكنه يدافع عن نفسه.
ومن الطبيعي ألاّ تركن الدول الكبرى للالتزامات الشفهية، لكن في مكان ليس ببعيد وتحديداً في سلطنة عمان، تدور مفاوضات سرّية بين واشنطن وطهران حول «اليوم التالي» في الشرق الأوسط. صحيح أنّ هذه المفاوضات تدور على صوت صواريخ الحوثيين في البحر الأحمر، وعلى دوي اشتباكات جنوب لبنان، لكن ثمة معطيات جديدة أفرزتها حرب غزة، وستشكّل حجر الأساس للتسويات المنتظرة. أضف الى ذلك أنّ واشنطن بقيت حريصة على عدم تجاوز الخطوط الحمر مع طهران، لا بل على التخفيف من تبعات الضغوط الاقتصادية الايرانية، والتي كانت تهدّد باستمرار الاستقرار الداخلي. ولا حاجة للإشارة الى ارتفاع مستوى «تهريب» أو «تصدير» النفط الايراني الى السوق السوداء. وهنا تدخل حسابات أخرى أكثر تعقيداً.
المهم أنّ نائب جهاز المخابرات الألماني توجّه فجأة الى بيروت للقاء نائب الأمين العام لـ»حزب الله». وفي ذلك مفارقات عدة لا تتعلق فقط برسائل التحذير من اندلاع الحرب المفتوحة. فهوكشتين حمل الرسالة نفسها والفرنسيون أيضاً ومختلف العواصم الغربية والعربية. لكن الزيارة الألمانية جاءت في خضم الرقابة الصارمة المفروضة على الجالية اللبنانية الشيعية في ألمانيا والمترافقة مع تدابير حازمة. وأيضاً هي الزيارة الأولى لمسؤول ألماني أدرجت بلاده «حزب الله» كتنظيم إرهابي ممنوع التواصل معه. ويمكن قراءة هذه الزيارة كإشارة إيجابية من خلال كسر الحرم المفروض على التواصل المباشر تماماً، كما أوحى لقاء مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل برئيس «كتلة الوفاء للمقاومة» النائب محمد رعد، ويمكن تفسيرها بأنّها إشارة حازمة على لسان مسؤول أمني رفيع وليس من خلال مسؤول سياسي مهما علا شأنه.
وفي اللقاء تحدث المسؤول الألماني بعبارات جافة (وهي طبيعة الألمان) حول وجود خطر حقيقي لاحتمال اندلاع الحرب في لبنان، وأنّ هذا الخيار جدّي جداً عند الإسرائيليين، وهو ما يستوجب الانتقال الى وقف إطلاق النار. وجاء جواب الشيخ نعيم قاسم بأنّ موقف «حزب الله» معروف، وهو بأنّ إطلاق النار في جنوب لبنان سيتوقف فور توقفه في غزة. فقال الزائر الالماني: «لكن الحرب في غزة هي نتيجة طبيعية للعملية التي نفّذتها حركة «حماس». فأجاب قاسم بأنّ «طوفان الأقصى» جاء بدوره كنتيجة طبيعية للإضطهاد الذي عاناه الشعب الفلسطيني طوال عقود من الزمن.
لكن المسؤول الألماني خرج بالانطباع السائد بأنّ «حزب الله» لا يسعى للحرب ولا يريد توسيعها، وأنّ مستوى ردّه يتوقف على الإعتداءات الإسرائيلية .
وحتى الآن تبدو الحرب في لبنان تحت سقف مضبوط وإذا نجحت الضغوط الأميركية في تحقيق وقف إطلاق النار في غزة والانتقال من المربّع الحربي الى مربّع التسويات، تكون المنطقة بدأت تدخل في مرحلة مختلفة، وهذا الاحتمال موجود بقوة.
من هنا يمكن فهم التحرّك الجديد للخماسية في بيروت. صحيح أنّه تحّرك مختلف عن السابق لناحية رفع منسوب ديناميته، إلاّ انّه لا تزال أمامه مسافة لا بأس بها للتوصل الى نتائج حاسمة. أي أنّه لا يزال في مربّع التحضير تمهيداً للوصول الى المرحلة النهائية الحاسمة. ومن هنا يمكن تفسير سلوك السفيرة الأميركية.
فالمرحلة الحاسمة تستوجب أن تكون قد خرجت فيه غزة من أتون النار وباشرت دخولها مرحلة التسويات. ولأنّ هذا الاحتمال موجود على الطاولة فيجب تحضير الملف اللبناني، وهو ما تقوم به بالضبط اللجنة الخماسية: تحضير الملف.
وعلى سبيل المثال، كان ملفتاً سلوك السفيرة الأميركية التي كانت تدقق بالتفاصيل وتُكثر من اسئلتها في هذا الإطار، كمثل تردادها كثيراً في معرض نقاشها: كيف ذلك؟ من المقصود؟ ما الخطوة التالية؟ الى آخره…
وكانت تتمسك دائماً بمقولة مراجعة رؤسائها في واشنطن، وكأنّ هنالك إطاراً موضوعاً ويجب متابعته، لا بل حمايته بعناية. والاستنتاج بأنّ الطرف الأميركي يريد خطوات مدروسة جداً وواثقة وثابتة ولا تحتمل الدعسات الناقصة. وربما لذلك دعت في الاجتماع المنعقد في دارة السفير السعودي الى ضرورة عدم قيام أي طرف بمبادرة أو تحرّك جانبي من دون التنسيق المسبق مع اللجنة الخماسية. وفي ذلك إشارة الى قطر. وكذلك اقترحت وجوب ألاّ يختصر أي طرف مهمّة تمثيل أو التحدث باسم الخماسية. وفي ذلك «غمزة» باتجاه الفرنسي.
لكن لودريان كان قد حاز سابقاً على مهمّة التحدث باسم الخماسية، وهو سيجدّد تكليفه في الإجتماع الذي سيُعقد مبدئياً في الرياض، والذي سيشارك فيه وينطلق بعده باتجاه لبنان متسلحاً ببيان ختامي. وهو سيستبق ذلك بزيارة الى القاهرة، هي أشبه بالوقوف على خاطر المصريين الذين كانوا يرغبون باستضافة اجتماع الخماسية.
وفي لقاء سفراء الخماسية مع الرئيس نبيه بري، وهو الاجتماع الوحيد مع المسؤولين اللبنانيين، سيطلب السفراء إطلاق دينامية واضحة لانتخاب رئيس للجمهورية وفق برنامج واضح يحمل خارطة طريق تؤدي في نهاية المطاف الى عقد جلسات متلاحقة، كما تفترض الأصول الدستورية.
لكن ثمة إشارات استفهام وتعجّب كثيرة لدى الخماسية حول انعدام الحركة الجدّية الداخلية لملاقاة تحّرك الخماسية، خصوصاً على المستوى المسيحي. والتساؤل هو إذا كان لدى النائب جبران باسيل مشروعه المخفي، والذي يلائمه تفاقم التعقيدات الناتجة من الفراغ الرئاسي. إلاّ أنّ المستغرب هو غياب المبادرة والحركة لدى «القوات اللبنانية»، والتي تكتفي بتسجيل مواقف إعلامية من دون التأسيس لحركة سياسية تصاعدية، خصوصاً أنّ الاستحقاق له علاقة مباشرة بالساحة المسيحية.
في كل الأحوال، فإنّ مركزية المشهد تتركز على غزة وتحديداً على مصير الحكومة الإسرائيلية، وهو ما سيحدّد الاتجاهات المستقبلية، ومع عدم إغفال مقولة إنّ المفاجآت تبقى واردة دائماً في الشرق الأوسط.
جوني منيّر – الجمهورية