لا يزال مشروع قانون معالجة أوضاع المصارف وإعادة تنظيمها “اليتيم الابوين” يشغل الاوساط الاقتصادية والمالية، وخصوصا أهل المصارف والمودعين على حد سواء.
تمخضت الحكومة فولدت مشروعا اضافيا خلافيا يعيد “تفريغ” المصارف من بقايا طاقاتها وامكاناتها ويفتح الباب على مصراعيه أمام خسارة الثقة والودائع في الفروع والمصارف التابعة خارج لبنان، بالاضافة الى اشكالية المادة 46 التي تعتبر اصلاحية بامتياز في ما لو تحركت الدولة وأقرتها قبل الازمة وقبل سقوط الهيكل على رؤوس الجميع وافراغ الودائع المستهدفة من قيمتها الفعلية.
يبقى تساؤل غير خبيث. هل يصدق واضعو المشروع ان المجلس النيابي سيقر قانونا يحتوي على بند يحيل غالبية المسؤولين والاداريين في الدولة من موظفين ومديرين عامين وقادة مؤسسات امنية وسفراء الى التحقيق في ودائعهم ومدخراتهم التي تفوق الـ 300 ألف دولار، فيما الجميع يعرف أن من سبق ذكرهم هم أتباع وأزلام هذه الطبقة السياسية التي يتشكل منها المجلس النيابي، وتاليا ايصدق أحد أن السلطة ستحاكم اتباعها؟
والمعلوم أن المادة 46 من المشروع نصت على نقطتين: الأولى وهي تحديث نموذج “إعرف عميلك” أو ما يعرف بالـ KYC، والثانية إعادة فائض الأموال. ويطلب مشروع القانون في الفقرة الأولى من المصارف الطلب بدورها من أصحاب الودائع بالعملات الأجنبية التي تفوق قيمتها الـ 500 ألف دولار، أو ما يعادلها بالعملات الأجنبية الأخرى، أن يتقدموا من المصرف بتصريح يضاف إلى تحديث نموذج “إعرف عميلك”، ويرفق به مستندات تُثبت مشروعية ومصدر الأموال خلال ثلاثة أشهر من تاريخ نشر القانون، تحت طائلة إخطار هيئة التحقيق الخاصة.
وفي السياق تؤكد مصادر متابعة أن ثمة استحالة في تطبيق المادة 46 من مشروع القانون خصوصا بالنسبة للمغتربين في دول ينشط فيها التهرب الضريبي، وهو ما استدعى من بعض السياسيين تنبيه الرئيس ميقاتي الى خطورة هذه المادة وأثرها السلبي على أموال المغتربين الذين سيضطرون الى التصريح الضريبي في البلاد التي يعملون فيها بما يعني أن ودائعهم ستطير حتما، علما ان هذا الامر ينطبق على المودعين العرب والاجانب، بما جذب رؤوس الاموال من غير اللبنانيين الى المصارف اللبنانية التي عرف عنها بأنها ملاذ آمن يحمي المودع الاجنبي من خلال مفاعيل قانون السرية المصرفية.
هل يسحب المشروع؟
تصر أوساط رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي أن لا نية لسحب “مشروع القانون المتعلق بمعالجة أوضاع المصارف في لبنان وإعادة تنظيمها” الذي سيناقشه مجلس الوزراء في جلسته المتوقعة نهاية الأسبوع المقبل. وتؤكد في المقابل أن ميقاتي يتلقى الملاحظات من المعنيين على المشروع، على أن تناقش خلال الجلسة بشكل يحقق العدالة والمساواة بين الجميع، علما أن وكيل جمعية المصارف المحامي أكرم عازوري أكد لـ “النهار” أنه بعد قرار مجلس الشورى الاخير القاضي بإبطال قرار مجلس الوزراء الصادر في أيار 2022 والقاضي “بالموافقة على استراتيجية النهوض بالقطاع المالي ولا سيما لجهة إلغاء جزء كبير من التزامات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية تجاه المصارف من أجل تخفيض العجز في رأسمال البنك المركزي”، لا يحق للسلطة التنفيذية أن تحول اي مشروع قانون الى المجلس النيابي، لا يتضمن بمقدمته الاعتراف بديون الدولة تجاه مصرف لبنان والالتزام بتسديدها والا تكون بذلك تخالف القرارات القضائية.
دعوى للمصارف لإلزام الدولة دفع ديونها لـ”المركزي”
الى ذلك، كشف عازوري أنه، تبعا لمذكرة ربط النزاع التي كان قد تقدم بها 11 مصرفا للمطالبة بأموال “المركزي”، وتبلغتها الدولة في 5 كانون الاول الماضي، وبعد انقضاء مهلة الشهرين التي كان يتوجب على الدولة الرد عليها ولكنها لم تفعل، سيتقدم هؤلاء أول الاسبوع المقبل بدعوى غير مباشرة أمام مجلس الشورى ضد الدولة لالزامها دفع ديونها لمصرف لبنان لكي يتمكن الاخير من دفع الاموال المصارف.
وفي ما يتعلق بتفاصيل مشروع قانون معالجة أوضاع المصارف وإعادة تنظيمها، قال عازوري أن “أي خطة نهوض، يجب أن تبدأ حتما باعتراف الدولة اللبنانية بإلتزاماتها القانونية. فشركة “ألفاريز أند مارشال” التي استعانت بها الدولة ودفعت لها اتعابها، خلصت في تقريرها الى أن الدولة استدانت من مصرف لبنان نحو 16 مليار دولار خلافا للقانون، والتزمت بردهم لكنها لم تفعل كما ان مصرف لبنان لم يطالبها بها، لافتا كذلك الى أن ميزانيات مصرف لبنان البالغة نحو 51.302.155.887 مليار دولار حتى سنة 2020 هي دين مستحق بذمة الدولة اللبنانية لمصلحة مصرف لبنان. هذه المبالغ وفق ما يقول بغالبيتها ودائع الناس “فيما الدولة تقول بطريقة أو بأخرى أنها ستلغي جزء كبير من ديون مصرف لبنان تجاه المصارف اللبنانية، مع علمنا ان الدولة لا يمكنها ان تسدد ديونها فورا، ولكن اي خطوة نهوض يجب أن ترتكز على اعتراف الدولة بما استلفته من مصرف لبنان من اموال خلافا للقانون”. وخلص الى أن اي خطة لا تنص في مقدمتها على الالتزام بقوانين النقد والتسليف والدستور والملكية الخاصة، لن تكون خطة نهوض بل خطة تدمير لمستقبل للقطاع المصرفي، علما أنه لو لم تكن ثمة حمايات قانونية في لبنان مثل مبدأ فصل السلطات واستقلال السلطة القضائية ومنع الدولة من الاستدانة من مصرف لبنان، لما كانت الناس أودعت أموالها في المصارف، ولا الاخيرة أمنت مصرف لبنان عليها.
وأكد أن “جمعية المصارف مع اي خطة نهوض ومستعدة لمناقشة بنودها بما يضمن المصلحة العليا، ولكن على الدولة الاعتراف أولا بموجباتها القانونية، وهذا ما أكد عليه مجلس الشورى، بحكمه الصادر في 6 شباط الجاري”.
الى ذلك، تتوقع مصادر مصرفية أن يصار الى تعديل مشروع القانون، إذ ثمة صعوبة باقراره خصوصا انه بطريقة أو بأخرى يشرع شطب ودائع المصارف في مصرف لبنان، وتاليا هو في حاجة الى تعديل، خصوصا بعدما صدر قرار مجلس شورى الدولة الاخير. وإذ أشارت الى أن 90% من ودائع الناس مع السلطة (مصرف لبنان والحكومة)، فيما الـ10% من الودائع موجودة لدى المصارف، أكدت أن طريقة المعالجة يجب أن تتغير فيما الحل أصبح معروفا ويقضي بإنشاء صندوق لاسترداد الودائع، تساهم الدولة ومصرف لبنان والمصارف فيه، أو أن تقوم الدولة بإصدار سندات صفرية (Coupon Bond Zero) للودائع التي تتجاوز مبلغ الـ 100 ألف دولار.
وتؤكد المصادر أن الحاكم بالانابة أكد للمصارف ان الاقتراح قابل للتعديلات وطلب منها الاجتماع للتشاور قبل سفره المقرر يوم الاثنين المقبل على أن يلتقي بعدها الرئيس ميقاتي، ولكن تقرر عقد الاجتماع بعد عودة منصوري من السفر.
الباحث في الشؤون الإقتصادية الدكتور محمود جباعي أكد أنه “من دون حوار جدي بين الدولة ومصرف لبنان وجمعية المصارف، لكي يتحمل كل مسؤولياته وتحديد الاولويات لكيفية حل الازمة، لا يمكن الخروج بخطة واقعية تحدد المسؤوليات والاموال المترتبة على كل طرف من الاطراف الثلاثة لرد أموال المودعين. ولكن المستغرب ان الدولة عمدت الى طرح خطة من دون التشاور مع بقية الاطراف فيما هي جزء أساسي في الازمة، بدليل أن نحو 68 مليار دولار من ودائع موجود لدى الدولة.
ويسأل جباعي لماذا جمعت الحكومة قانون “الانتظام المالي” مع “هيكلة المصارف” وما الهدف من ذلك علما اننا بحاجة لهما بشكل متزامن، ولكن كان الاجدى بها فصلهما. فدمجهما يحمل المصارف ومصرف لبنان وحدهما مسؤولية اعادة الاموال من دون أن تلتزم الدولة رد الاموال التي استدانتها من المصارف ومصرف لبنان. وكأنها بذلك تقول ان إعادة الهيكلة هي الطريق الوحيد والكافي لرد اموال المودعين، ولكن ذلك غير صحيح، إذ أن ذلك سيطيح بأي أمل لاعادة اموال المودعين.
وبغض النظر عن تفاصيل الارقام المتعلقة بالودائع المؤهلة وغير الموهلة، سأل جباعي “من أين السيولة، اذا لم تساهم الدولة بتسديد الودائع؟، فإذا كان مصرف لبنان سيتحمل مع المصارف مسؤولية السداد، فإن ذلك يعني أن احتياطي المركزي البالغ نحو 9 مليار و500 ألف ليرة سيتبخر، فيما لا يمكن لسيولة المصارف البالغة نحو ملياري دولار موزعة بين المصارف المراسلة ولبنان أن تفي بالحاجة، علما أنه لا يمكن استخدام “الفريش” كونها من حق المودعين الجدد، وتاليا نحن امام أزمة خصوصا أن المستثمرين سيحجمون عن ضخ اي أموال جديدة في المصارف كون الارباح ستذهب حتما الى رد الاموال القديمة. من هنا يؤكد جباعي ضرورة أن تتعاون الدولة، وتعمد الى “تثمير” أصولها وتفعيل الانتاجية للمساهمة في رد الودائع، مشيرا في السياق الى إمكان اعتماد الشراكة بين القطاعبن العام والخاص، واستثمار جزء من مشاعات الدولة التي تقدر مساحتها بنحو 930 كلم ألف متر مربع.
كما يشير الى أهمية تفعيل القطاع المصرفي عبر البدء بالتسليف من خلال وضع مصرف لبنان مبلغ معين من الاحتياطي الالزامي في تصرف المصارف لتسليف المواطنين على أن يترافق ذلك مع اقرار قانون في مجلس النواب يلزم رد القرض بعملته حصرا، بما يمكن المصارف من جني بعض الارباح تساعدها في رد الودائع ما دون المئة ألف دولار. وهذا الامر برأي جباعي من شأنه “تحريك الدورة الاقتصادية وتحسين النمو الاقتصادي عبر زيادة الاستثمارات وفرص العمل، وتاليا سيساعد الدولة بجباية الضرائب”.
سلوى بعلبكي – النهار