اختلفت زيارة الرئيس سعد الحريري للبنان هذه المرّة في ذكرى استشهاد والده الرئيس رفيق الحريري عن سابقاتها في هذه المناسبة وفي غيرها، منذ ان قرّر تعليق عمله السياسي عام 2020.
ما سبق زيارة الحريري الحالية ورافقها أوحى أنّ الأسباب السياسية والخاصة التي فرضت عليه تعليق عمله السياسي قد زالت، وأنّ عودته إلى لبنان هذه المرّة ستكون توطئة لعودته النهائية في وقت ليس ببعيد، لكي يكون شريكاً في تكوين السلطة الجديدة بدءاً من انتخاب رئيس جمهورية جديد؟
والباعث على هذا الاعتقاد، كان بداية كلام رئيس مجلس النواب نبيه بري غداة استقباله سفراء المجموعة الخماسية العربية ـ الدولية العاملة على خط الاستحقاق الرئاسي، حيث رحّب «من خارج النص» بعودة الحريري في ذكرى استشهاد والده، بما يؤدي الى عودته إلى العمل السياسي، متوجّهاً اليه قائلا: «أهلاً وسهلاً بعودتك للعمل السياسي عندما تقرّر»، مشيراً الى أنّ الحريري أثبت في الانتخابات النيابية عام 2022 انّه «الناجح الأكبر على الرغم من اعتكافه وعدم مشاركته فيها».
وقد قرأ البعض في كلام بري هذا ما يدلّ إلى وجود معطيات لديه، عن انّ الموانع التي فُرضت على الحريري تعليق العمل السياسي لا اعتزاله، قد زالت، وانّ الرجل آتٍ الى البلاد هذه المرّة ليؤسس لانطلاقة سياسية جديدة تأخذ في الاعتبار التطورات الجارية داخلياً واقليمياً ودولياً.
ثم كان كلام عضو كتلة «لبنان القوي» ألان عون في جلسة موازنة 2024 الاخيرة في مجلس النواب، عندما استذكر الحريري مشيداً «بجرأته في إنتاج التسويات» كما فعل في العام 2016 عندما انتُخب الرئيس ميشال عون، وتوجّه اليه قائلاً: «لو كنت معنا لكانت المعادلة الوطنية تغيّرت».
وإلى ذلك، كانت الدعوات التي وجّهها عدد من القيادات والسياسيين للحريري لكي يعود عن قراره. كل ذلك أوحى انّ معطيات تجمّعت لدى أصحاب هذه الدعوات تدلّ إلى زوال الأسباب التي دفعت الحريري إلى تعليق عمله السياسي، بل انّ البعض قال انّ هذه المواقف، ولا سيما منها موقف رئيس مجلس النواب نبيه بري تدلّ الى بروز موقف خليجي عموماً وسعودي خصوصاً، يشجّع على عودة الحريري الى تفعيل عمله وموقعه في الحياة السياسية اللبنانية.
وإذ ذهب هذا البعض الى الحديث عن زوال ما سمّاه «الفيتو» السعودي على عودة الحريري، سارع الاخير إلى نفي وجود مثل هذا «الفيتو» أساساً، مؤكّداً أنّ قراره بتعليق عمله السياسي كان شخصياً. واعتبر في «دردشات» مع صحافيين وسياسيين التقوه أنّ «كل ما يُكتب عن علاقتي مع السعودية لا صحة له، فأنا علّقت العمل السياسي بقرار مني وليس بقرار من أي أحد آخر.. ونقطة على السطر».
علماً انّ القاصي والداني يعرف انّ الحريري اتخذ قراره على إثر سقوط «التسوية الرئاسية» الشهيرة التي حكمت علاقته بعهد الرئيس ميشال عون، وكذلك كان دافعه الى هذا القرار ظلم بعض «ذوي القربى» السياسيين «الذين كانت السنتهم بمدحه سياسياً وأيديهم بنحره سياسياً ايضاً» حسب قول البعض، فضلاً عن مواقف بعض الخصوم من أفرقاء سياسيين آخرين.
ويقول أحد العارفين واللصيقين بالحريري، إنّ غالبية الذين هبّوا لاستقباله وتقاطروا إلى «بيت الوسط» ومحضّوه الدعم والتأييد يدركون أنّه غير عائد إلى عمله السياسي في هذه العجالة، لأنّ الظروف التي دفعته إلى الابتعاد لا تزال موجودة.
على انّ فئة من هؤلاء تريد للحريري جدّياً أن يعود «ليملأ الفراغ القيادي في البيئة التي ينتمي إليها، حيث انّ هذه البيئة تعاني من اضطراب قيادي منذ قراره بتعليق عمله السياسي، مع أنّها تدرك أن موانع عودته لا تزال موجودة. لكن هذه الفئة لم تجد غضاضة في أن تحتشد وتدعوه للعودة عن قراره، بما يشكّل رسالة منها إلى «من يعنيهم الأمر» مفادها أنّ بيئته تريد له الإمساك بناصية قيادتها السياسية، وبالتالي ما على المعنيين والمهتمين الّا تلقف هذه الرسالة ودعم عودته إلى موقعه في المعادلة السياسية اللبنانية.
أما الفئة الثانية التي شاركت في استقبال الحريري، فهي تعرف مسبقاً أنّ عودته عن قراره لم يحن اوانها بعد، لكنها قرّرت ان تنساق مع الأجواء سياسياً وعاطفياً، فشاركت في الدعوات التي وُجهت إليه لاستئناف عمله السياسي، وذلك لكي لا تظهر وكأنّها وقفت على الحياد أو لا تريد عودته.
والواقع أنّ الحريري كان في زيارته ـ عودته هذه المرّة أكثر جرأة مما كان عليه في زيارته السابقة، إذ عبّرعن آرائه، فقال إنّ تعليقه عمله السياسي لا يمنعه من إبداء رأيه في الأوضاع والقضايا المطروحة داخلياً وخارجياً. مع العلم انّ ما كان لافتاً كان الحوار الذي اجرته معه قناة «الحدث ـ العربية» السعودية. وكذلك كانت «دردشته» مع مجموعة من الصحافيين، حيت لفت إلى أنّ «لبنان يعاني من أزمات عدّة، وانّ الاوضاع لا تنتظم الاّ بعودة المؤسسات وأولها انتخاب رئيس للجمهورية»، موضحًا أنّ «الفراغ في البلد مميت للدولة والكتل النيابية مسؤولة عمّا يحصل».
وقد حرص الحريري على اظهار انّه يقف على مسافة واحدة من المرشحين الرئاسيين. فقال عن استقباله رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية انّه «صديقي تمامًا كما الوزير السابق جهاد ازعور». وقال: «هناك احزاب لديها تواصل مع إيران، ولكن هذا لا يعني ان ليس لدى «حزب الله» هامش في العمل في الداخل اللبناني». وأوضح أنّ «تجربة تسوية عام 2016 فاشلة، ولكن ذلك لا يعني انّ كل التجارب فاشلة»، وشدّد على التزامه نهج الاعتدال وقال: «اذا لمست أنّ سنّة لبنان يميلون نحو التطرّف ساعتها انا بتدخّل».
على انّه اكّد لقناة «الحدث ـ العربية» انّ «عودتي للمشهد السياسي من عدمها ليست أولوية شعب لبنان»، وقال: «لن أعود عن قرار انسحابي من الحياة السياسية الآن، وهذا سابق لأوانه». واعتبر «انّ الشهيد رفيق الحريري كان مشروع دولة ووسطياً، والذين اغتالوه سيدفعون الثمن».
في اي حال، أجمع عدد من الذين التقوا الحريري انّ زيارته للبنان هذه المرّة فتحت الباب لعودته الدائمة، لكن توقيت هذه العودة يبقى مربوطاً بتوقيت التسويات التي قال انّه يجري إعدادها للبنان والمنطقة. وفي هذا السياق، لم يكن امام الرجل إلاّ القول إنّ «الناس قالت كلمتها في الأمس في 14 شباط»، لكنه اكّد «أنني لا أرى انّ وقت عودتي للعمل السياسي قد حان».
لذلك، فإنّ الحريري، يقول سياسيون متابعون، سيعود الى لبنان، وانّ قراره لم يكن خروجاً نهائياً من العمل السياسي او اعتزاله نهائياً، خلافاً لاعتقاد البعض من خصوم وغير خصوم. اما مسألة رئاسة الحكومة المقبلة فلا تزال مرهونة بانتخاب رئيس جديد، وما سيفرضه شخصه ومواصفاته من معادلات على مستوى تركيبة السلطة الجديدة.
طارق ترشيشي – الجمهورية