بعد إقرار موازنة 2024 ونشرها في الجريدة الرسمية وعودة الانتظام المالي الى المالية العامة، لا تزال قضية الدولار المصرفي تتربع على عرش المشكلات المالية والمصرفية لتداخل انعكاساتها على مصرف لبنان والمصارف من جهة والمودعين والقطاع الخاص من جهة أخرى. فمصرف لبنان أنجز فروضه ولحقت به الحكومة في الموازنة، وتم توحيد سعر صرف الدولار على السعر المعلن على المنصة الالكترونية لمصرف لبنان والمحدد حاليا بـ 89500 ليرة.
قطوع توحيد سعر الصرف في مصرف لبنان وفي الموازنة مرّ بمباركة محلية ودولية، لكن معضلة الاختراع اللبناني المسمى “دولار مصرفي” بقيت موضع تجاذب بين وزارة المال ومصرف لبنان بعد صدور الموازنة في الجريدة الرسمية، وتأكيد مصرف لبنان أن توحيد اسعار الصرف يعني أن الدولار المصرفي سيصبح على سعر 89500 ليرة.
واستناداً الى القانون، لا وجود لدولار مصرفي، وجميع الدولارات سواء كانت في السوق أم في المصارف سواسية أمام سعر الصرف المحدد وفق الاسواق وحركة العرض والطلب، ولكن وفق الاستثناءات والتسويات وشراء الوقت على الطريقة اللبنانية وتحت ذريعة تسيير امور الناس، تم اجراء “هيركات” مقنَّع وارادي على السحوبات ما ادى الى نشوء حالة مصرفية تحت عنوان الدولار المصرفي. بَيد أن عدم قانونية “التسعير” ومخالفته مبدأ ليبرالية الاقتصاد ولّد أزمة حيال مرجعية تسعير غير قانوني لدولار مصرفي غير قانوني ايضا، وتحوّل اصدار قرار بتعديل سعر صرف الدولار المصرفي المقدر حاليا بـ15 ألف ليرة الى كباش بين جميع مكونات السلطات السياسية والمالية والنقدية.
إذ بعدما كان متوقعا وفق منطق الامور أن يناقش المجلس النيابي أثناء اقراره الموازنة معضلة الدولار المصرفي واقرار مادة في الموازنة ذات صلة، أو اقرار قانون رديف للموازنة يحدد فيه الوضع القانوني والسعر الرسمي للدولار المصرفي، تجاهل المجلس الموضوع وفضّل رمي الكرة في ملعب الحكومة التي هربت من مسؤولياتها وحاولت بدورها رميها عند مصرف لبنان ووزارة المال اللذين يتجاذبان بغية ايجاد مخرج على طريقة “لا يفنى الديب ولا يموت الغنم”.
ليست المشكلة في الانهيار المالي والاقتصادي فحسب، بل في شغور المرجعية القانونية والدستورية في ادارة الازمات والمشكلات الكبرى التي تواجهها البلاد. فمصرف لبنان يعتبر انه قام بما يحتم عليه القانون عمله، فيما وزارة المال متروكة من دون سند حكومي وتحاول اشراك مصرف لبنان في قرار لم يعد يستسيغه بعدما وحّد أسعار الصرف لديه في خطوة مطلوبة من صندوق النقد الدولي تعيد اليه الثقة الدولية.
وفيما ينتظر الجميع خروج الدخان الابيض من المباحثات والاتصالات المكثفة التي تجري بين وزارة المال ومصرف لبنان برعاية سياسية من اعلى المستويات في محاولة لتقريب وجهات النظر وانقاذ الموقف لكي لا يبقى الدولار المصرفي قابعا على سعر الـ 15 الف ليرة الى ما لا نهاية، تركزت الجهود على آلية اصدار القرار وطريقة اخراجه بما لا تتحمله وزارة المال منفردة أو يطعن بصدقية مصرف لبنان أمام صندوق النقد، فكان الإخراج بإدراج جملة في القرار الذي سيصدر عن وزارة المال كالآتي: “بعد التشاور والتنسيق مع رئاسة مجلس الوزراء ومصرف لبنان”.
في التفاصيل، وقبل وصول الدولار المصرفي الى خواتيمه السعيدة المفترض اليوم أو الاثنين المقبل على ابعد تقدير وفق ما تؤكد مصادر وزارة المال، كانت مصادر متابعة تجزم بان فترة اعتماد 15000 ليرة كسعر للدولار المصرفي انتهت عمليا بالتزامن مع نشر الموازنة في الجريدة الرسمية ودخولها حيز التنفيذ. وهذا الامر، وفق ما تقول، سيؤدي حتما الى نشوء خلافات واشكالات بين المودع والمصرف الذي لا يزال يعتمد سعر الـ15 الف ليرة. وتؤكد أن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي حاول ايجاد حل للدولار المصرفي بالتعاون بين وزارة المال والمصرف المركزي، لكن الاخير رفض هذا الامر، معتبرا ان على المجلس النيابي تحمّل مسؤولياته واصدار قوانين نهائية لإنقاذ القطاع المصرفي برمّته واهمها قانون يحدد اعتماد سعر صرف معيّن في المصارف، او مصارحة الناس بان ليس في استطاعته تشريع قوانين للحد من الـ”haircut” الذي يطاول ودائعهم. فمصرف لبنان يرفض الحلول الموقتة مع اقتناعه بأنه في حال أصدر وزير المال يوسف الخليل قرارا بتحديد سعر الدولار المصرفي فقد يكون عرضة للطعن.
وفي المعلومات ان وزير المال كان قد تواصل مع حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري للاتفاق معه على سعر الدولار المصرفي الذي يمكن أن يُعتمد على نحو يمكن لمصرف لبنان أن يتحمله ولا يشكل اي بلبلة في السوق، فتم الاتفاق على سعر 25 ألف ليرة. وعندما اعد وزير المال القرار ضمّنه جملة “بالتشاور والتنسيق مع مصرف لبنان”، الامر الذي رفضه منصوري على خلفية أن الاتفاق مع صندوق النقد يقضي بتوحيد سعر الصرف، وتاليا لا يمكنه الموافقة على دولار مصرفي خارج اطار توحيد سعر الصرف. وهذا الامر حدا بوزير المال الى الاصرار على عدم اصدار اي قرار من دون أن يذيّل بجملة “بعد التشاور والتنسيق وموافقة مصرف لبنان”.
الدولار المصرفي مسؤولية “المال” أم مصرف لبنان؟
تجزم المحامية الدكتورة جوديت التيني بأن “وزير المال ليس له صلاحية مباشرة في موضوع تحديد سعر الدولار المصرفي”. وتقول: “مِن مراجعة قانون النقد والتسليف والحيثيات التي بُني عليها التعميمان 151 و158 يتبين انه جرى الاستناد الى المادتين 70 و174 من قانون النقد والتسليف، اضافة الى قرار للمجلس المركزي صدر بتاريخ 4/6/2021، ما يعني انّ المجلس المركزي، وسندا لصلاحياته القانونية، هو جهة مؤثرة”. وتوضح أن المادة 70 تنيط بالمصرف المركزي مهمة عامة هي المحافظة على النقد اللبناني والاستقرار الاقتصادي وسلامة اوضاع النظام المصرفي. ولهذه الغاية يمارس المصرف المركزي الصلاحيات المعطاة له بموجب قانون النقد والتسليف من اصدار تعاميم من قِبل الحاكم سواء أكان متولياً منصبه بالاصالة ام بالانابة، اذ لا انتقاص لأي من صلاحيات الحاكم بالانابة. ويضاف اليها المادة 174 من القانون نفسه التي تمنح المصرف المركزي، وبعد استطلاع رأي جمعية مصارف لبنان، الصلاحية لكي يضع التنظيمات العامة الضرورية لتأمين حسن علاقة المصارف بمودعيها وعملائها”. وتضيف: “كما للمصرف المركزي ان يحدد ويعدل كلما رأى ذلك ضروريا قواعد تسيير العمل التي على المصارف ان تتقيد بها حفاظا على حالة سيولتها وملاءتها، على حد ما جاء في المادة 174. ومن نص هذه المادة يتبيّن انّ استطلاع رأي جمعية المصارف ضروري”.
وتخلص التيني الى القول: “منذ اواخر 2019 ونحن امام اجتراح حلول موقتة واستثنائية، بدليل أن التعميمين 151 و158 صدرا بعنوانين: “اجراءات استثنائية حول السحوبات النقدية…”، وما يُعرف بـ”الدولار المصرفي” مصطلح غير وارد اساسا في القانون، انما القانون نفسه يكتفي بمنح صلاحيات للمصرف المركزي لتسيير القطاع المصرفي والمحافظة عليه ضمن سقف وحدود الصلاحيات الممنوحة، واستطلاع رأي جمعية المصارف ضروري سنداً لصراحة المادة 174″.
سلوى بعلبكي – النهار
Follow Us: