كان لإقرار موازنة 2024 بالسرعة التي أقرّت بها وبالعشوائية التي أربكت أمانة سر المجلس النيابي في تدوين المحاضر، دلالة على أن من بيدهم الحل والربط يسعون إلى تطبيق أجندة غير معلنة من تشريعات مطلوبة تنتظر دورها في أدراج المسؤولين، وتحت نظر وإلحاح صندوق النقد الدولي وأترابه من المؤسسات الدولية.
باكورة التشريعات التي ظهرت غداة إقرار الموازنة فوراً، كانت مشروع “القانون المتعلق بمعالجة أوضاع المصارف، وإعادة تنظيمها” الذي أتى إلى الساحتين الإعلامية والحكومية يتيم الأبوين والتبنّي، إلا من رعاته ومرشديه الدوليين الذين لا يحتاج المرء كثيراً إلى تلمّس بصماتهم وتعليماتهم في النص المقترح.
تعرّض المشروع بعد “تسريبه” للكثير من التشريح والتمحيص والنقد، وكشف خبراء ومختصون بالشأنين المصرفي والقانوني الكثير من العيوب القانونية والدستورية وكذلك المالية التي تعتريه، والاهم أنه يخالف أبسط قواعد حماية الملكية الفردية، وحق الوصول الى الحقوق دون انتقاص أو انتظار عشرات الأعوام.
يسير المشروع حالياً على خطين، أحدهما يسلك مسار صندوق النقد، وفيه إلى بعض الحكومة، مسؤولين ومستشارين، يتبنّى مقترحاته وإرشاداته بالمطلق المزيّن بعبارات الإنقاذ والنهوض. أما المسار الثاني فمعزز أيضاً ببعض الوزراء والمسؤولين، يحرص على حماية القطاع المصرفي من التسرع في إقرار تشريعات تناهض الخصوصية المصرفية وتلغي مستقبلاً أي قدرة للمصارف على النهوض من كبوتها، وتسمح لسيف “الهيركات” المقنّع بقطع رأس الودائع مباشرة، أو عبر تذويب معظمها بسعر صرف يقتطع من قيمتها الكثير، أو بأسرها في قيود استحقاق لعشرات السنين.
بعد تحديد رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي جلسة لمجلس الوزراء على جدول أعمالها بند وحيد هو مشروع القانون المذكور، وبعدما شعر بعض الوزراء بأن خلف الأكمة ما وراءها، تنادوا لاجتماع ضم إليهم مجموعة من المصرفيين وأعضاءً في الهيئات الاقتصادية وقانونيين.
تركز النقاش على المشروع المقترح لإعادة تنظيم المصارف، والمخاطر المحدقة بالقطاع والودائع، لو تم إقراره بالصيغة الهجينة التي وصل بها إليهم، وعليه ووفق ما علمت “النهار” فإن بعض المشاركين بادر إلى الاتصال برئيس الحكومة، ووضعه في أجواء اللقاء ومحتوى المناقشات، والاعتراضات الكثيرة والعوائق القانونية والدستورية وكذلك النقدية التي تمنع السير بالمشروع كما ورد إلى الحكومة.
وبناءً على ذلك تم الاتفاق على مخرج مشترك يحضر من خلاله جميع الوزراء الجلسة، ويباشرون بمناقشة المشروع عموماً وتحديد البنود الخلافية فيه، ومن ثم دراسة إمكان تشكيل لجنة وزارية لهذه الغاية مع مهمات ومهل محددة تعود بعدها الى رفع تقرير مفصل الى مجلس الوزراء يلحظ التعديلات والآليات القانونية المطلوبة بعد استشارة مختصين وأهل القطاع وربما ممثلين عن المودعين.
ملاحظات الوزراء
“النهار” تواصلت مع عدد من الوزراء، فكان إجماع على معارضة مشروع القانون نظراً الى الشوائب الكثيرة التي تعتريه، فيما أكد الوزير السابق نقولا نحاس لـ”النهار” أن الوزراء جميعاً حضروا ملفاتهم ووضعوا ملاحظاتهم كما التعديلات التي يُفترض لحظها في المشروع”، متوقعاً أن “يخضع المشروع للكثير من النقاشات داخل الجلسة وتالياً للتعديل”.
وزير الزراعة عباس الحاج حسن أكد لـ”النهار” أن “مشروع القانون كما وُزع على الوزراء لن يمر حتماً، ويجب إعادة النظر في بعض بنوده”. وقال “فريقنا السياسي لديه ملاحظات كثيرة يجب نقاشها، إذ إن أموال المودعين خط أحمر وبمثابة أموال الأوقاف الإسلامية والمسيحية يُمنع المساس بها، وخارج هذه الرؤية يمكن النقاش طويلاً في كل البنود”. وارتأى عدم الغوص في تفاصيل الملاحظات “سيكون لنا الكثير من الكلام في الجلسة، فهذا الملف حساس ومركزي ودقيق وأساسي خصوصاً في ظل الظروف التي تمر بها البلاد”.
وزير التربية عباس الحلبي سجل ملاحظاته أيضاً على مشروع “قانون معالجة أوضاع المصارف وإعادة تنظيمها”، فرأى أن “التعاون وتوزيع المسؤوليات ممكن ومطلوب بين المصارف والمصرف المركزي والدولة، لكن ما هو مطروح في المشروع لا يقارب فجوة مصرف لبنان من حيث مسؤولية الدولة عنها نتيجة الاقتراض من أموال المودعين وسوء استعمالها”. الى ذلك يلاحظ الحلبي أن “لا رؤية لتسديد الدولة لهذه الفجوة بصرف النظر عن مسؤولية الفريقين الآخرين وبصرف النظر عن الودائع التي تفوق أو تنقص عن الـ100 ألف دولار. كذلك تنتفي الإشارة الى أي إصلاح للقطاع العام ومكافحة الفساد بحيث إن “السيستم” الذي أوصلنا الى هذا المأزق مستمر بذاته. كما أنه غير واضح ما معنى أن يودع الفائض في الصندوق؟ متى وكيف؟ فأين الخطة الإصلاحية؟ ولا يردّ على ذلك بالقول إنها وضعت أو ستوضع بموجب مستند أو قانون آخر لأن الأمرين وثيقا الترابط”.
وخلص الى أن “هذا المشروع ليس على مستوى التوقعات التي انتظرها المودعون لحماية مصالحهم. فلم يؤمن مقياس المسؤولية لمحاسبة الحكومات المتعاقبة التي أنفقت أموال المودعين، فيما ليس لدى الدولة اللبنانية أي مساهمة ملموسة لتغطية التزاماتها تجاه المودعين في مشروع القانون بحيث ستكون التكاليف على عاتق المصارف (تمتلك المصارف سيولة خارجية خاصة بها وعمليات إيداع في المصرف المركزي)”.
وإذ لفت الحلبي الى أن “تقرير التدقيق الجنائي لـ”ألفاريز ومارسال” أثبت مسؤولية الدولة بوضوح شديد، وتالياً لا يمكن التغاضي عنها بعد الآن”، لاحظ أيضاً أنه “تم تجاهل جانب المخاطر النظامية للأزمة الى حد كبير في مشروع القانون، وتالياً ينبغي للدولة أن تعترف بذلك بوضوح تام”.
ومن الحلول التي اقترحها الحلبي لمعالجة أزمة النظام المصرفي، أشار الى ضرورة “تحمّل الدولة مسؤوليتها تجاه مصرف لبنان والمودعين والدائنين لإعادة جدولة ديون اليوروبوندز، وهذا ما يسمح بإعادة التصنيف المالي للدولة. وفي حالة عدم كفاية الموجودات، بما في ذلك حسابات المصارف لدى مصرف لبنان، لتغطية المطلوبات، يجب على مشروع القانون تحديد عمليات التقييم والإصلاح والتصفية”.
الحلبي اعتبر أن “إتمام عملية الخروج من إعادة الهيكلة يحتاج إلى أن يكون ضمن مهلة واضحة وصريحة، إذ إن “المهلة المعقولة” التي يجب أن تقيم في خلالها شروط الخروج من إعادة الهيكلة، قد تعرقل مسار العملية. فهناك استنسابية في تقدير ما يمكن أن يكون “معقولاً” و”غير معقول”، وعدم تحديد مهلة بشكل واضح من شأنه أن يحمل تداعيات سلبية على النظام المصرفي”، مقترحاً “تشديد الرقابة على قرارات الهيئات الإدارية المختصة بإتمام عمليات إعادة الهيكلة والتصفية، لكونها هيئات إدارية تؤدي دوراً أساسياً في تعزيز المساءلة والشفافية والاستقرار. وتالياً فإن إنشاء هيئة عليا تختصّ بإعادة النظر في قراراتها من شأنه أن يكفل اتخاذ قرارات تحمي مصالح المودعين والمصارف معاً ولها تداعيات إيجابية على الاقتصاد”.
وكما غالبية الوزراء، أكد الحلبي أن “مشروع القانون يجب أن يضع مصالح المودعين في الأولوية، وأن يؤمن هذا الهدف الرئيسي من قرارات الهيئة المختصة، وأن يتضمّن بنوداً صريحة لحماية حقوق المودعين والتصدّي لأيّ تعدّ عليهم”.
وفي السياق، وزع وزير المهجرين عصام شرف الدين ملاحظاته على الوزراء بعد أن سجلها في أمانة مجلس الوزراء. شرف الدين بنى ملاحظاته على رأيين، الأول قانوني أعدّه المتخصّص في الرقابة القضائية على المصارف المركزية والأجهزة الرقابية التابعة لها المحامي الدكتور باسكال ضاهر أدرج في القسم الأول منه “الحلول القانونية الأنجح للأزمة”، وفي القسم الثاني منه بيّن المخالفات الدستورية والقانونية لمشروع القانون المتعلق بمعالجة أوضاع المصارف في لبنان وإعادة تنظيمها. أما الرأي الثاني فاقتصادي ومالي أعده الخبير المالي والاقتصادي الدكتور عماد عكوش الذي لاحظ أن المشروع وضعه مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف، وهذا الأمر برأيه “غير علمي أو موضوعي”، وتالياً “لا بد من جهات مستقلة تكون لها الكلمة الأولى في إعداد مشروع القانون”. وفي ما يتعلق بالمطلوبات المستثناة وخصوصاً ودائع القطاع المالي التي من ضمنها مصرف لبنان، يستخلص عكوش أن “المصارف لن تكون قادرة في حال إعادة الهيكلة على تثبيت ودائع هي غير قادرة على ردها بالكامل، وفي حالة التصفية لن تكون قادرة بموجوداتها الباقية على إعادة الودائع، وتالياً من غير المعلوم حجم الودائع التي سيتم ردها. وهذا يعني من دون نص واضح فإن معظم المصارف في حال الالتزام بالمعايير الخاصة بالمحاسبة الدولية ومعايير التقييم المطلوبة وفقاً لما ورد في المادة 56، فإن كل المصارف ذاهبة الى التصفية، بما يعني إفلاس المصارف وليس إعادة هيكلتها، لأنكم لن تجدوا في هذه الحالة بعد اليوم من يضع أمواله في أي بنك لبناني”.
وأشار عكوش الى أن “هذا القانون يشمل الهيكلة، إعادة الودائع، لكن لم يكن واضحاً لناحية كيفية إعادة الودائع، وأين ستوضع المبالغ المستردة، سواء أموال تهريب الأرباح الموزعة، الأموال غير القانونية، الأموال المحوّلة للخارج، الأموال الخاصة بالمساهمين في البنوك، احتياطي مصرف لبنان المتوافر حالياً، قيمة أصول مصرف لبنان التي تم تمويلها من الودائع”.
ولاحظ عكوش “عدم ذكر الموجودات التي تم التفرغ عنها بطريقة مشبوهة خلال فترة الأزمة، وتم تهريبها الى الخارج خلال الفترة المريبة قبل الأزمة وخلال الأزمة”.
مصادر جمعية المصارف أكدت لـ”النهار” أنه إذا أقر مشروع القانون كما هو، فإن ذلك يعني القرار بإعدام القطاع المصرفي، وتالياً ضياع أموال المودعين. وأشارت الى أن “ثمة غموضاً وعدم وضوح في الكثير من بنود المشروع، وخصوصاً ما يتعلق بتسديد الودائع غير المؤهلة والـzero coupon bonds، لافتة الى أن “الجميع يقر بأن الأزمة نظامية، وتالياً فإن ذلك يعني أن الأزمة لا يمكن تحميلها للمصارف فقط، لكونها أزمة نظام مالي”. وأشارت المصادر الى موقف رئيس الحكومة نجيب ميقاتي “الذي أقر خلال لقائه بالجمعية بأن مشروع القانون مجحف في حق المصارف، وتالياً ترى الجمعية وجوب تعديله وتوزيع المسؤوليات قبل إحالته الى مجلس النواب”.
سلوى بعلبكي – النهار