كل الظواهر المناخية غير المعتادة التي تسجل في العالم في الأعوام الأخيرة، ليست إلا بداية لما يمكن أن ينتج من تداعيات أكثر حدة للتغير المناخي في المستقبل، فمن المتوقع أن تشتد حدتها عاماً بعد الآخر، وفي لبنان، سجلت كمية متساقطات مرتفعة في فترات قصيرة بشكل غير مسبوق، قبل أن يسجل ارتفاعاً مفاجئاً في درجات الحرارة لتتخطى معدلاتها الموسمية، هذا إضافة إلى العواصف المتتالية التي زادت حدة، وتأخر تساقط الثلوج عن مواعيدها المعتادة.
هذه الظروف المناخية غير الاعتيادية تدعو إلى التساؤل حول ما إذا كان من الممكن أن يخسر لبنان ميزة الفصول الأربعة والطقس المعتدل الذي يتغنى به زواره، ليصبح بلداً بفصلين فقط، فكل الظروف المناخية المستجدة في العالم والمنطقة بشكل خاص، تشكل هاجساً للحكومات في ظل توقعات بأن تكون ظواهر التطرف المناخي أكثر حدة في الأعوام المقبلة بتأثير من التغير المناخي.
لعل كل ذلك يستدعي إعادة النظر في البنى التحتية بدول المنطقة في مواجهة التحولات الكبرى المرتقبة في المناخ تجنباً للكوارث التي تزيد صعوبة التصدي لها في حال الإهمال.
الحالة المناخية شبه عادية
بعكس ما يجري التداول فيه، لا تعتبر الحالة المناخية في لبنان هذا العام غير مسبوقة، كما يجري التداول فيه. ففي مقارنة أجراها عبدالرحمن الزواوي رئيس دائرة التقديرات بمصلحة الأرصاد الجوية في مطار رفيق الحريري، سجل بالفعل في الخريف ارتفاعاً في حرارة سطح البحر التي لم تكن تتخطى 19 درجة مئوية لتصبح 21 درجة مئوية.
وبحسب الزواوي فإن ارتفاع درجة حرارة الأرض والبحر يعتبر من العناصر التي ترتبط بالتغير المناخي بالفعل، لما يترافق مع ذلك من عملية تبخر وأمطار غزيرة في فترات قصيرة وفيضانات وارتفاع منسوب الأنهار.
بشكل عام، حتى يناير (كانون الثاني) الماضي تم تسجيل ارتفاع في درجات الحرارة بالمقارنة مع السنوات السابقة، علاوة على هطول أمطار غزيرة، إلا أن هذا الاختلاف في المعدلات المسجلة تراجع مع حلول فصل الشتاء، ولم تعد هناك أمطار “طوفانية” كتلك التي شهدها لبنان في الأسابيع التي سبقت، والتي كانت فعلاً غير اعتيادية.
أما الأمطار حالياً، فهي أقرب إلى تلك الأوروبية، إذ يقول الزواوي إن تأثير التغير المناخي يظهر بشكل أوضح في الخريف والربيع في لبنان. من جهة أخرى، سجل تدني درجات الحرارة في شهري يونيو (حزيران) ويوليو (تموز) من السنة الماضية بالمقارنة مع سنوات مضت في ظل تأخير في بداية فصل الصيف.
على رغم ذلك يمتاز لبنان بموقع جغرافي مميز يجعله أقل تأثراً حتى الآن بالظواهر المناخية القصوى، خصوصاً في ظل التنوع الطبيعي والجغرافي بوجود الجبل والساحل، كما أن المنخفضات الجوية فهي نفسها وتأتي لبنان من أوروبا في معظمها، لكنها تمتاز بغزارة كبرى في الأمطار ما يؤدي إلى ارتفاع منسوب الأمطار والسيول.
“التقلب في درجات الحرارة ليس بمستجد على لبنان في فبراير (شباط) – وفق الزواوي – بل كنا نشهد دوماً ارتفاعاً في درجات الحرارة، يليه انخفاض فيها خلال فترات أخرى مع أمطار وعواصف، لكننا لاحظنا اختلاف في الحرارة الدنيا والقصوى، إذ إن درجات الحرارة الدنيا بدت أعلى صيفاً”.
لذلك، في الصيف لم نشهد ارتفاعاً غير معتاد في درجات الحرارة، بل تحديداً ارتفعت درجات الحرارة الدنيا ليلاً بالمقارنة مع السابق ما يسبب المزيد من الانزعاج للمواطن ويرفع معدلات الإرهاق، لاعتبار أن جسم الإنسان يرتاح من الحر صيفاً في الليل. أما موجات الحر فكانت كالمعتاد”، بحسب رئيس دائرة التقديرات بمصلحة الأرصاد الجوية في مطار رفيق الحريري.
في المقابل تعتبر معدلات الثلوج التي تساقطت بلبنان في هذا العام جيدة، وإن كان تساقط الثلوج قد تأخر في فبراير الجاري، فتكدست بكميات وافرة من ارتفاع 1700، ومن المتوقع أن تصمد هذه الثلوج في الأسابيع المقبلة.
تحتسب السنة المطرية في لبنان من أول سبتمبر (أيلول) حتى 31 أغسطس (آب)، وبلغت معدلات الأمطار 914 ملم هذه السنة، فيما لم تتخط السنة الماضية 507 مليمترات أي إنها زادت بمعدل الضعف، لكنها تساقطت في معظمها في موسم الخريف فيما انخفضت كمية المتساقطات لاحقاً.
وفي كل الحالات، لا يعتبر الزواوي هذه الأمطار كلها مجدية فعلاً لأن نسبة كبيرة منها ترمى في البحر، وإن كانت قد تفيد الآبار الجوفية. وإذا ما توقف تساقط الأمطار اليوم تعتبر كمية المتساقطات التي سجلت حتى اللحظة كافية، وتتخطى المعدل العام إلى حد كبير.
الخليج أكثر تأثراً
تبدو دول الخليج أكثر تأثراً بالتغير المناخي، كما بدا واضحاً من الحالة المناخية التي سيطرت فيها، إذ تساقط الثلج في شمال السعودية وفي الصحراء، كما شهدت الإمارات أمطاراً غزيرة، وتشكلت السيول بشكل غير معتاد ما تسبب بغرق السيارات في الطرقات. وكل ما يحصل في الخليج العربي من ظواهر مناخية قصوى يؤكد أنه أكثر تأثراً بالتغير المناخي، في حين يتأثر لبنان في عناصر معينة هي الأمطار الغزيرة في الخريف وتشكل السيول في هذه الفترة من السنة، لكن هذا التغيير يشكل مصدر قلق على سلامة الطيران نظراً لما يصاحبه من رعد قوي، وبرق متواصل، وكمية أمطار غزيرة بشكل يصعب توقعه.
ليست مفاجأة
مدير برنامج تغير المناخ والبيئة في معهد عصام فارس بالجامعة الأميركية في بيروت، الدكتور نديم فرج الله، يرى أن منسوب الأمطار لا يكون متساوياً في كافة الأعوام في لبنان، أي قد ترتفع المعدلات في سنوات وتنخفض في أخرى، بالتالي لا يعتبر ما حصل في هذا العام من ارتفاع في كمية المتساقطات مفاجئاً.
ونبه إلى أنها ليست المرة الأولى التي ترتفع فيها درجات الحرارة خلال فبراير في لبنان، وكانت هناك غالباً رياح خمسينية في هذا الشهر وربما تكون في مارس (آذار) المقبل مع ارتفاع في درجات الحرارة، لكن في بيروت والبقاع سجل ارتفاع في درجات الحرارة القصوى بتأثير من التغير المناخي، إضافة إلى زيادة تدريجية في درجات الحرارة على مدار السنة.
ومع مرور السنوات لوحظ أن لبنان وغيره من الدول لم تعد تشهد تساقط ثلوج في المرتفعات الجبلية كما في السابق، وباتت الثلوج تتساقط على مستويات أعلى. فمع ارتفاع درجات الحرارة، تذوب الثلوج سريعاً من دون الاستفادة منها.
لذلك، يتوقع فرج الله أن تكون رياضة التزلج إلى زوال ليس في لبنان فحسب بل في كافة الدول، على رغم زيادة حدة العواصف وموسم الشتاء وانهمار الأمطار الغزيرة والفيضانات. وفي لبنان بشكل خاص تنذر التعديات على الأنهار بمزيد من الأخطار، خصوصاً عندما تترافق مع أمطار غزيرة، ما يؤكد عدم إمكان الاستمرار بالعمران العشوائي.
من جهة أخرى، سجل ارتفاع في الحرارة الدنيا في صيدا وبيروت وصور، فكانت بحدود 16 درجة مئوية وبلغت 20 تقريباً. وفي بيروت بشكل خاص، ارتفعت الحرارة أكثر بعد بسبب الكثافة العمرانية، وكل ذلك يؤثر في الغطاء الثلجي. فمع ارتفاع الحرارة الدنيا تذوب الثلوج سريعاً ولا تتشبع منها التربة. ونظراً لعدم وجود سدود لوقف جريان الأنهار، تتوجه الثلوج الذائبة إلى البحر ولا تتخزن لتأمين حاجات البلاد، فيما يتخطى معدل الاستهلاك الكمية المخزنة.
إعادة تأهيل ضرورية للبنى التحتية
أياً كانت حدة التحولات المناخية الناتجة من التغير المناخي، من المتوقع أن تزيد حدة في الأعوام المقبلة. وحتى اللحظة، لا تواكب التحولات المرافقة للتغير المناخي وما تنتج منه من ظروف مناخية قصوى تعديلات موازية في البنى التحتية في لبنان والمنطقة، هذا ما يفسر ما نشهده من سيول جارفة وغرق طرقات، وغيرها من الكوارث في لبنان والخليج.
فمن المتوقع أن تزيد غزارة الأمطار أكثر عما كانت عليه في الأعوام التي سبقت، فيما تبدو البنى التحتية سيئة التصميم، بحسب فرج الله، محذراً من أن تلك المباني لا تجاري هذه الغزارة والتحولات في الطقس، لأنها مصممة بخطوط تصريف مياه ضيقة. يضاف إلى ذلك أنه في لبنان، يرمي الناس النفايات التي تتوجه مع صرف الأمطار ما يؤدي إلى سيول في الطرقات عند انهمار الأمطار بغزارة. فعندما يأتي الشتاء قوياً، تطوف المجاري.
لا يمكن مواجهة ذلك إلا بزيادة المساحات الخضراء بالدرجة الأولى حتى تستوعب كميات المياه المتساقطة، خصوصاً في المناطق الجبلية، هذا إضافة إلى إعادة تأهيل البنى التحتية لتستوعب كميات الأمطار المتساقطة بالشكل الصحيح، مع ضرورة صيانتها دورياً تجنباً لانسدادها حتى إن المباني القديمة في لبنان تميزت دوماً بوجود الحدائق أمامها، وهذا ما يغيب في التصميم حالياً ويزيد من احتمال حصول مشكلات في ظل الظروف المناخية القصوى.
وينطبق هذا على الخليج حيث من المفترض أن يكون هناك تصميم مدني صحيح يواكب التحولات المرافقة للتغير المناخي والمتوقعة في الأعوام المقبلة.
يقول مدير برنامج تغير المناخ والبيئة في معهد عصام فارس بالجامعة الأميركية في بيروت، “في الخليج لا بد من الحرص أكثر بعد بوجود الأعاصير المدمرة التي يمكن أن تزيد حدة مع السيول والبرد، كتلك التي ضربت سلطنة عمان واليمن. حتى إن الطرقات التي غرقت في دبي تدل على أن البنى التحتية غير جاهزة أبداً وغير مستعدة لهذا الكم الهائل من المتساقطات، فقد أنجزت من 20 سنة ولم يأخذ أحد في الاعتبار آنذاك التغير المناخي”.
تحولات مستقبلية
من جهته، يشير المهندس المتخصص في العمارة البيئية في الجامعة الأميركية في بيروت الدكتور آرام يرتزيان إلى أن التغييرات المناخية الواضحة تنذر بمزيد من التحولات في المستقبل.
وفي البنى التحتية هناك ما هو موجود أصلاً وما هو قيد التصميم للمستقبل، وفي الحالتين من المفترض أن تؤخذ التحولات المرافقة للتغير المناخي في الاعتبار، علماً أن المدن تشيد عادة مباني بشكل تدوم خلال نحو 80 سنة، لكن من المؤسف أن الأمور لا تحصل حالياً وفق هذه المعايير، وفقاً ليرتزيان.
أما البنى التحتية فتصمم بشكل تدوم فيه لأكثر من 100 عام، لكن بسبب التغير المناخي، المطلوب أن تحصل إعادة تأهيل لما صمم من عشرات السنوات تجنباً للكوارث التي يمكن أن تحصل في ظل الظواهر المناخية الحادة في مواكبة للتغيير.
يضيف، “المطلوب أيضاً أن تصمم أسقف المباني بشكل تستوعب فيه كمية المتساقطات الكبيرة قبل أن تتوجه مباشرة إلى الطرقات وتغمرها. وكانت المدن مصممة سابقاً بشكل يسمح بتغذية المياه الجوفية، بسبب الكثافة العمرانية اليوم لا يعتبر هذا ممكناً ما يسبب الفيضانات”.
وعلى صعيد البنى التحتية في بيروت مثلاً، من المفترض تصميم خط لمياه الأمطار وآخر للصرف، وهذا ليس موجوداً وليس هناك فصل في المجاري. وهناك عوامل عدة أخرى تسهم في مشكلات من هذا النوع ولا بد من معالجتها للتأقلم مع التغيير.
وما بين هذا وذاك بات ضرورياً إعادة تصميم الشبكات، ولو كان ذلك مكلفاً وغير سهل التطبيق، بما أنها صممت سابقاً على أساس مختلف. وسبق لبريطانيا أن عملت على إعادة تأهيل شاملة للبنى التحتية في مواكبة للتطور التكنولوجي ومتطلبات التغير المناخي.
وهناك تغيير استراتيجي في مفهوم البنى التحتية إلى جانب كل العوامل العمرانية المطلوبة، والمساحات الخضراء كعنصر أساسي في مراعاة للتغيير المناخي لتكون هناك قابلية للتكيف، وهذا هو الهدف بالنسبة لجميع المدن بحسب المحيط الذي هي فيه، وإلا ستكون السنوات المقبلة أصعب.
كارين اليان ضاهر – اندبندنت