مع بدء العدّ العكسي للانتخابات البلدية والاختيارية المفترضة خلال شهرين ونيّف، وهي المؤجّلة أساسًا منذ عامَين، باعتبار أنّها أرجئت مرّة لتزامنها مع الانتخابات النيابية، ومرّة أخرى بذريعة الظروف الاقتصادية وعدم الجاهزية، تتصرّف السلطة السياسية المعنيّة بالاستحقاق وكأنّ تأجيله للمرّة الثالثة سيكون “تحصيلاً حاصلاً”، مستندة في ذلك هذه المرّة إلى الظروف الأمنيّة، في ضوء الحرب الإسرائيلية المتواصلة على جنوب لبنان.
وإذا كان هذا الاتجاه برز في الموازنة حين قدّمتها حكومة تصريف الأعمال من دون أن تلحظ فيها الاعتمادات اللازمة لإجراء الانتخابات البلدية، ما أوحى برغبتها تكرار “سيناريو” العام الماضي، قبل أن تجري لجنة المال والموازنة النيابية التعديلات عليها، فإنّه تجلّى أكثر بتصريحٍ لوزير الداخلية والبلديات بسام مولوي قال فيه إنّه “يتمنى” أن تنتهي الحرب في الجنوب قريبًا، حتى “يتمكّن” من إجراء الانتخابات البلدية والاختيارية.
ومع أنّ مولوي قال في التصريح نفسه إنّ القرار النهائي يبقى قرار مجلس النواب، وإنّ الحكومة لا يمكنها إلا أنّ تجري الانتخابات البلدية إذا لم يؤجّلها المجلس صراحةً، فإنّ تصريحه أكّد المؤكّد برأي كثيرين، وهو أنّ السلطة السياسية تُعِدّ العدّة بالفعل لتمديدٍ جديدٍ للبلديات، بل إنّ هناك من وضع تصريحه في خانة “جسّ النبض”، أو ربما “التمهيد” لقرار التأجيل، وإن تُرِك على جري العادة لربع الساعة الأخير وضغوطها.
لكن، في مقابل تعامل السلطة السياسية مع التمديد وكأنّه “بديهيّ” في ظلّ حرب الجنوب، برز موقف معترض لرئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع، اقترح فيه التفكير بتأجيل الانتخابات في البلدات التي تشهد مواجهات عسكرية، كونها تعيش حصرًا دون غيرها “ظرفًا قاهرًا”، فهل يبدو مثل هذا الطرح قابلاً للتنفيذ على أرض الواقع، أم أنّ قرار التأجيل قد اتُخِذ كما يجزم كثيرون، ولم يبقَ سوى التنفيذ؟!.
في المبدأ، ليس خافيًا على أحد أنّ تأجيل الانتخابات البلدية ليس “الخيار الأمثل” في هذه الظروف، إذ إنّ القاصي والداني يدرك أنّ معظم المجالس البلدية الحاليّة ما عادت قادرة على أداء الدور المطلوب منها، علمًا أنّ الكثير منها مشلولة، إن لم تكن منحلّة أصلاً، تمامًا كما أنّه ليس خافيًا على أحد أنّ معظم القوى السياسية “تفضّل” تأجيل الاستحقاق البلدي، لأسباب مصلحيّة بالدرجة الأولى، بعيدًا عن “ذريعة” حرب الجنوب، ومدى واقعيّتها.
صحيح أنّ وجهات النظر تتفاوت حول حجم “تأثير” حرب الجنوب على استحقاق الانتخابات البلدية، بين من يعتبر أنّ تأجيلها يفترض أن يكون “حتميًا وبديهيًا”، بانتظار أن تهدأ المدافع بالحدّ الأدنى، وبين من يرى في المقابل، أنّ ما يجري في الجنوب يجب أن يكون “محفّزًا” لإجراء هذه الانتخابات، بحيث تفرز مجالس بلدية جديدة تكون قادرة على التصدّي للمواجهة، باعتبار أن الوضع الناشئ عن الحرب يزيد العبء الملقى على البلديات، وليس العكس.
لكن، بمعزل عن هذا النقاش، يقول العارفون إنّ الإشكالية الأساسية تبقى في أنّ الطبقة السياسية بمعظم مكوّناتها غير راغبة بإجراء الانتخابات البلدية، بل تعتقد أنّها “غير جاهزة” لهذا الاستحقاق، في ظلّ الظروف الحاليّة، وهي لا تجد في الحرب الدائرة في الجنوب سوى “ذريعة” قد تكون أكثر واقعيّة من كلّ الذرائع التي اعتُمِدت سابقًا لتأجيل الانتخابات، ولا سيما أنّ عبارة “الظرف القاهر” الشهيرة قد تنطبق عليها، دون غيرها من الظروف السابقة.
ويذهب العارفون لحدّ الحديث عن “تقاطع ضمني” بين مختلف ألوان الطبقة السياسية على التمديد، باعتبار أنّ الظروف السياسية والاقتصادية قبل تلك الأمنية غير مهيئة لمثل هذا الاستحقاق، وهو “تقاطع” يشمل حتى تلك القوى التي تجاهر في العلن برفض تأجيل الانتخابات، لكنّها لا تفعل شيئًا ملموسًا لمنع التمديد، وقد تجلّى هذا الأمر بوضوح في جلسة التمديد العام الماضي، والتي تأمّن نصابها كما ميثاقيتها بقدرة قادر.
لكن، بعيدًا عن الحكم على “النوايا”، قد يكون السؤال أكثر من مشروع حول مدى “القدرة” فعلاً على إجراء هذه الانتخابات في ظلّ الحرب الدائرة في الجنوب، والتي بدأت تتّسع رقعتها، في ظلّ الاستهداف الإسرائيلي المتكرّر لمناطق خارج النطاق الحدوديّ الضيّق، وسط خشية حقيقية من أن تتحوّل إلى حرب “شاملة” على مستوى البلد، ما يتطلّب برأي كثيرين استنفارًا وتأهّبًا كاملين، بعيدًا عن إشغال القوى الأمنية بانتخابات يمكن تأجيلها.
في هذا السياق، برز الاقتراح الذي قدّمه رئيس حزب “القوات اللبنانية” حول تأجيل الانتخابات فقط في البلدات التي ينطبق عليها وصف “الظرف القاهر”، وهو ما يرى متخصّصون في الشأن الانتخابي أنّه واقعي، بل إنّ له “سوابق” في العالم، وحتى في لبنان، حيث جرت الانتخابات البلدية في فترة الاحتلال الإسرائيلي للجنوب قبل العام 2000، ما يعني أنّ بالإمكان إيجاد “المَخارِج” التي تتيح إجراء الانتخابات، من دون تعريض الناس للخطر.
يلفت المدافعون عن طرح جعجع إلى أنّ دولاً عدّة تشهد صراعات عسكرية تتفاخر بإجراء انتخاباتها في مواعيدها، بل إنّ القوى التي تريد تأجيل الانتخابات بذريعة حرب الجنوب “تطبّل” لها، كما في حال سوريا مثلاً، مع التحفّظ على شكل الانتخابات فيها، كما يسألون لماذا تكون حرب الجنوب سببًا لتأجيل الانتخابات في كلّ لبنان، في حين أنّ المواطنين في معظم المناطق لا يتأثرون بهذه الحرب، ويستكملون حياتهم وأعمالهم بشكل عاديّ.
وفي حين يؤكد هؤلاء أنّ القانون لا يمنع إجراء الانتخابات البلدية على دفعات، أو لا يفرض إجراءها على كامل التراب الوطني في الوقت نفسه، وبالتالي فهو يتيح إجراءها في فترات حتى لو كانت متباعدة ثمّة في المقابل من يعتبر أنّ المنطق الذي يسري على الأرض الواقعة تحت الاحتلال مثلاً، كما كان الحال قبل العام 2000، لا يسري على فترات “أوج” الحروب كما هو الحال اليوم، حيث أصبح القصف “روتينًا يوميًا”، إن جاز التعبير.
ويشير هؤلاء إلى أنّ هذا السيناريو يصطدم بإشكاليتين أساسيتين، الأولى واقعية وترتبط بمدى القدرة على “ضمان الأمن” في حال إجراء الانتخابات، وكيفية تصنيف المناطق، ولا سيما أنّ إسرائيل تضيف إلى “بنك أهدافها” مناطق جديدة بين الفينة والأخرى، فيما الثانية نفسية، وترتبط بالرسالة التي توجّه لأهل الجنوب في حال استثنائهم، بعدما تولّد أساسًا لديهم انطباع بأنّهم متروكون، وكأنّ الجنوب ليس جزءًا لا يتجزأ من الوطن.
في النتيجة، يعتقد كثيرون أنّ القرار قد اتُخِذ، وأنّ الانتخابات البلدية ستؤجَّل من جديد، بذريعة الحرب الدائرة في الجنوب، لكنّ أسئلة كثيرة تُطرَح عن “مصير” البلديات في ظلّ حالة الشلل المتفاقمة هذه، وقبل ذلك، عن “مصداقية” سلطةٍ قالت قبل عام إنّ تمديدها للبلديات لمدّة عام لا يعني أنها ستنتظر عامًا كاملاً لإجراء الانتخابات، فإذا بها تخطّط منذ اليوم الأول لتمديد آخر، بدليل تجاهلها وضع الاعتمادات في الموازنة المبدئية!.
النشرة