عندما يقول وزير الحرب الإسرائيلي يوآف غالنت إنّ ايران و«حزب الله» يسعيان لتحويل شهر رمضان «طوفان أقصى» جديداً، فهذا معناه أنّ الحكومة الإسرائيلية تمهّد الطريق أمام الإعلان عن وقف لإطلاق النار عند بدء شهر رمضان.
ذلك أنّ الإدارة الأميركية متمسّكة بالهدنة لأنّها تدرك جيداً نتيجة خبرتها الناتجة من الحروب التي خاضتها في المنطقة، أنّ النفوس تكون معبأة في الشهر الذي يحمل رمزية دينية كبيرة. والمشكلة الحقيقية أنّ الشارع الإسلامي سيكون أكثر قابلية لأن يتحرّك وهو مشحون دينياً في عدد من العواصم العربية، خصوصاً تلك التي لديها ظروف حسّاسة مثل العاصمتين الأردنية والمصرية، نتيجة المجازر التي حصلت وستحصل إذا ما استمرت المعارك. أضف الى ذلك، الرمزية الدينية للمسجد الأقصى وامكانية تجدّد المواجهات مع المتطرفين اليهود، واحتمال دخول أطراف إقليمية أو دولية على الخط لتشجيع حصول اضطرابات في باحة المسجد الأقصى، وهو ما سيُلهب الشارع الإسلامي وسيؤدي الى هزّ استقرار عواصم عربية عدة.
كما أنّ الرئيس الأميركي جو بايدن في حاجة ماسّة الى هدنة في غزة تسمح له بالتقاط انفاسه داخلياً. ففي ولاية ميشيغان تلقّى بايدن إنذاراً إنتخابياً صارماً من الناخب الأميركي من أصول عربية، تعبيراً عن غضبه من موقف الادارة الأميركية من الحرب الدائرة في غزة. وبايدن المحشور داخلياً لا يستطيع تجاهل هذه الشريحة الناخبة. وبينما كان التعويل على 10 آلاف صوت للتصويت السلبي، جاءت النتيجة أكثر بنحو أربعة أضعاف.
وللدلالة على أهمية هذه الولاية، ففي انتخابات 2016 فاز دونالد ترامب على هيلاري كلينتون بفارق نحو10 آلاف صوت، أما في العام 2020 ففاز بايدن على ترامب بفارق نحو 155 ألف صوت. مع الإشارة الى أنّ أصوات الأميركيين من أصول عربية يبلغ في هذه الولاية نحو 200 ألف صوت.
حتى على المستوى الإسرائيلي، فسيسعى رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو الى توظيف إطلاق قسم من المحتجزين الاسرائيليين لتحسين موقعه السياسي ووضعه في إطار إنجازاته، خصوصاً أنّ العودة الى المفاوضات حصلت بعد تقليص حركة «حماس» لشروطها، وهو ما ينسب نتنياهو الفضل له في إدارته للمفاوضات لتحقيق ذلك.
ولكن في المطلق، فإنّ التوصل لوقف لإطلاق النار لن يكون وقفاً للحرب، أو هذا على الأقل ما تتمّسك به الحكومة الإسرائيلية. فإسرائيل لا تعارض تبادل الأسرى ووقف موقت لإطلاق النار، إنما ترفض وقف الحرب نهائياً، خصوصاً أنّ بن غفير يذكّر نتنياهو دائماً وعبر تصريحات علنية، بأنّه يدرك جيداً أنّ إنهاء الحرب الآن سيعني سقوط حكومته فوراً. ومشكلة نتنياهو هي في استمرار تأييد غالبية الشارع الإسرائيلي لاستمرار الحرب، إضافة الى الشعبية التي يحظى بها غريمه بيني غانتس واحتمال صعود نجم غادي آيزنكوت، والذي بات يحظى بكافة شروط الزعامة بدءاً من كونه قائداً عسكرياً سابقاً ووالد جندي قُتل في المعركة وآخر هو إبن شقيقته، وهو يحظى بعلاقة طيبة مع واشنطن ولم يستهلك نفسه بعد في عالم السياسة.
وإسرائيل تفصل أيضاً بين الحرب على غزة والجبهة المفتوحة مع لبنان. وهذا الموقف يتناقض مع موقف «حزب الله» المتمسك بالربط بين جبهة غزة وجبهة لبنان. ولكن هذا لا يعني أنّ هدنة شهر رمضان لن تشمل الجبهة اللبنانية أيضاً، على الرغم من الرسائل الميدانية الكبيرة التي واظب الجيش الاسرائيلي على إرسالها عبر الساحة اللبنانية. فالطائرات الإسرائيلية وسّعت دائرة استهدافاتها لتطاول ليس فقط العمق بل أيضاً الأطراف الشمالية للبنان، مثل بعلبك، رداً على رفع «حزب الله» مستوى السلاح المُستخدم في المعركة والذي وصل الى صواريخ الدفاع الجوي.
كذلك استمرت اسرائيل في اغتيال قيادات ميدانية لـ«حزب الله» في لبنان وفي سوريا أيضاً.
وإذا كان هنالك من يعتقد أنّ هدنة شهر رمضان ستسمح بإعطاء الوقت الكافي للضغوط السياسية القائمة على أساس فكرة ترحيل السنوار ورفاقه في القيادة العسكرية الى الجزائر لتجنيب مدينة رفح ومنطقتها حمام دم، فإنّ هؤلاء يعتقدون أيضاً بأنّها ستفتح الطريق أمام البدء بجسّ النبض حول الأفكار الجاري تداولها لرسم خريطة طريق لتطبيق القرار 1701.
وما يشجّع على هذا الاعتقاد هو ذلك الهدوء الغريب الذي يسود القواعد والمواقع الأميركية في العراق وسوريا منذ نحو أسبوعين. فالقوى المتحالفة مع إيران التزمت بوقف أي استهداف للمواقع الأميركية، ما يوحي بحصول تفاهمات من خلال قناة التفاوض المفتوحة عبر سلطنة عمان. وهو ما أوحى أيضاً أنّ ايران لا تحبّذ توجيه «لكمات» انتخابية لبايدن، في وقت كان واضحاً فيه انحياز الرئيس الروسي لدونالد ترامب منافس بايدن.
وبالعودة الى لبنان، فإنّ الظروف لا تزال تؤشر الى أنّ الوقت لم يحن بعد للانخراط جدّياً في إرساء ترتيبات وصفقة شاملة تطاول جنوب لبنان والانتخابات الرئاسية وإعادة تكوين السلطة. وهذا ما ظهر واضحاً في التعاطي الأميركي مع الحركة الفرنسية. فباريس القلقة على دورها المتراجع على المسرح الدولي بعد الخسارات المتتالية في إفريقيا، والصفعة التي تلقّتها في لبنان، سعت لاستعادة حضورها عبر الدخول على خط التسوية في جنوب لبنان والترتيبات الرئاسية. لكن واشنطن وجّهت ثلاث إشارات سلبية ضدّ مساعي باريس. الأولى من خلال التعاطي باستخفاف مع الورقة الفرنسية حول الحلول في جنوب لبنان، وهذا ما شجّع الطرف اللبناني على عدم التجاوب معها لاعتبارها «عزفاً منفرداً»، وهو الذي يدرك أنّ الطرف الدولي الوحيد القادر على رعاية التسوية مع اسرائيل هو واشنطن.
والثانية هو بمعارضة واشنطن لانعقاد مؤتمر باريس، والذي كان مخصصاً لدعم الجيش اللبناني. وحجة واشنطن هنا هي أنّ التحضير للمؤتمر جاء متسرّعاً، حيث كان يجب أن يراعي التفاهم المنتظر حول تطبيق القرار 1701، عندها يصبح الوقت ملائماً للبحث في المتطلبات التي سيحتاجها الجيش اللبناني للقيام بمهمته.
والإشارة السلبية الثالثة جاءت من السفيرة الأميركية في بيروت ليزا جونسون حين تحدثت بوضوح خلال اجتماع سفراء الدول الخمس في مقر السفير الفرنسي في قصر الصنوبر، عن أنّه على اللجنة الخماسية إبطاء إيقاع حركتها الآن لاستكشاف الظروف بنحو أفضل، وأنّ لا أحد مخولاً التحدث بإسم الخماسية. وكان واضحاً أنّ المقصود بكلام السفيرة الأميركية هو المبعوث الفرنسي جان إيف لودريان الذي على ما يبدو وصلته الرسالة بالبريد السريع وقرّر تأجيل زيارته الى لبنان في الوقت الراهن. وما عزز قراره أنّ جونسون كرّرت أكثر من مرة خلال الاجتماع، ورداً على بعض الاستفسارات، أنّها تريد العودة الى رؤسائها لكي تستطيع إعطاء الجواب.
ولا بدّ أن تكون القمة الفرنسية ـ القطرية المنعقدة في باريس قد تطرّقت الى الملف اللبناني، خصوصاً أنّ نزاعاً صامتاً كان قد حصل بين باريس والدوحة حول لبنان. ففي مقابل الحركة الناشطة للمبعوث الفرنسي، كان الموفد الأمني القطري يجول بعيداً من الإعلام ويحمل في جعبته تصوراً مختلفاً. وهذا ما استدعى اعتراضاً فرنسياً. في المقابل عمدت السفيرة ليزا جونسون الى رفع البطاقة الحمراء مرتين متتاليتين، حيث كرّرت تأكيد عدم وجود متحدث باسم «الخماسية». المرّة الأولى في خيمة السفير السعودي وكان كلامها موجّهاً ضمناً للسفير القطري، والثانية في قصر الصنوبر وكان موجّها للودريان. وظهرت الحساسية الفرنسية ـ القطرية في اجتماع «الخماسية» عند رئيس مجلس النواب نبيه بري. فالواضح أنّ فرنسا تستشرس للمحافظة على موقعها في لبنان، لا بل تعزيز دورها، وفي المقابل تريد قطر حجز مرجعيتها على الساحل الشرقي للبحر المتوسط مع إمكاناتها الهائلة.
لكن التوقيت يبقى بيد واشنطن وحدها رغم غرقها في نزاع انتخابي حاد. فهي القادرة على إنجاز التسويات العريضة في المنطقة، وبالتالي فتح أبواب الحلول أمام لبنان، ما يعني أنّ الوقت لم ينضج بعد.
تبقى الإشارة الى ما أورده السفير الأميركي السابق في لبنان ديفيد هيل في مقالة له حين ختمها موجّهاً نصيحة الى صنّاع السياسة الأميركية بالقول: «الضعف والتكيّف لا يؤديان الّا الى تعزيز العنف. فالقوة والردع يغذيان السلام. هذا هو الدرس المستخلص من ثمانين عاماً من التدخّل الديبلوماسي في لبنان».
جوني منيّر – الجمهورية