انتهت جلسة مجلس الوزراء الأخيرة، وأنهت معها أزمة الشلل الذي أصاب القطاع العام في لبنان بسبب الإضرابات، بغضّ النظر إن كان الحل مرحليا و جيّدا أم لا.
وعقب الجلسة المذكورة، تلا وزير الإعلام في حكومة تصريف الإعلام زياد مكاري مقررات الجلسة، معلنا عن زيادة رواتب القطاع العام، وبأنّ كلفتها الشهرية تبلغ 10700 مليار ليرة لبنانية، والتكلفة الإضافية للخطة 2900 مليار ليرة لبنانية، وأنّ الزيادات التي أقرّتها الحكومة ستكون بمفعول رجعي ابتداء من الأول من كانون الأول 2023.
وبعيدا عن تفاصيل الزيادات والتقديمات الأخرى للموظفين والعسكريين الحاليين والمتقاعدين، وما إذا كانت منصفة وكافية في ظلّ الغلاء المضطرب صعودا اليوم، وبعيدا عن أحقّيتها وضرورتها، فإنّ ما يشغل بال هؤلاء وبال كافة اللبنانيين، هو أن تتسبّب هذه الزيادات بمزيد من التضخّم، وبالتالي إرتفاع سعر صرف الدولار مقابل إنهيار أكبر لليرة اللبنانية، كحصيلة لطباعة المزيد من الأخيرة.
فهل يبنى على خطوة الدولة هذه، كحجر أساس لمشروع إصلاح شامل للقطاع العام والنهوض، أم أنّها خطوة مرحلية وقاصرة؟
هل كان هناك ضرورة
لزيادة رواتب القطاع العام؟
الخبير الإقتصادي الدكتور عماد عكّوش رأى أنّ هذه الخطوة هي من ضمن الخطوات الترقيعية، التي لا زالت الحكومة اللبنانية تخطوها، والسبب الأساسي لهذا الترقيع هو عدم الثقة بين كل أطياف وطبقات وأفرقاء المجتمع اللبناني، فالمودعون لا يثقون بالمصارف، والمصارف لا تثق بمصرف لبنان، والاخير لا يثق بالحكومة، وهي لا تثق بموظّفي القطاع العام، وموظفو القطاع العام لا يثقون بها وبالمجلس النيابي، وهذه الحالة من انعدام الثقة سببها الأساسي التجارب الفاشلة السابقة، وعدم وجود خطط موثوقة وجدّية لدى الطبقة السياسية للخروج من الأزمة.
ولفت إلى أنّ ما عجّل من صدور هذه الترقيعة هو التعطيل الشامل في القطاع العام، وتهديد الكيان اللبناني لناحية إمكانية الإستمرار بالصرف من دون إيرادات وجباية، وإمكانية تعطيل كامل للمرافق العامة، بما فيها مرفأ بيروت ومطار بيروت الدولي، وبالتالي عزل لبنان عن العالم .
وعما اذا كان هناك ضرورة لزيادة رواتب القطاع العام، وماذا لو لم تقرّها الدولة؟ أكّد عكّوش أنّ رواتب القطاع العام إنخفضت بشكل كبير منذ بداية الأزمة في نهاية العام 2019، وتدنّت بما يزيد عن 95 بالمئة من قيمتها، وبالتالي لم يعد بالإمكان الإستمرار بهذه الرواتب، وكان لا بدّ من التصحيح، لكن بدل أن تلجأ الحكومة إلى وضع خطة شاملة تعالج هذا الواقع بموضوعية، وانطلاقا من المعطيات المتوافرة لديها، لجأت إلى تصرفات عشوائية تميّز بين الموظفين وبين مَن في الخدمة وبين المتقاعدين، ما أدى الى فورة هذه الفئة، والخروج الى الشارع ورفض هذه التدابير .
كيف ستؤمن الحكومة هذه الزيادات؟
في المقابل، ورغم أنّ إقرار الزيادات ليس بالأمر الكافي من دون إعادة هيكلة القطاع العام برمّته، رأى عكّوش أنّ القرارات الاخيرة التي اتخذتها الحكومة وإن كانت عشوائية، فهي تؤمن الحدّ الأدنى الذي يمكن أن يعيد هذا القطاع للعمل، لكنّ السؤال هو: كيف ستؤمن الحكومة هذه الزيادات، فموازنة العام 2024 تبلغ حوالى 308 تريليون ليرة لبنانية، أي ما يعادل 3.45 مليار دولار بسعر منصة “صيرفة” وهو سعر واقعي وحقيقي، كما أنّها تتضمن من ناحية المبدأ حوالي 45 تريليون ليرة لبنانية رواتب وملحقاتها، بمعظمها منافع إجتماعية يتّم صرف أغلبها على الموظفين، وتبلغ حوالى 98 تريليون ليرة لبنانية شهريا، أي حوالى 143 تريليون ليرة لبنانية سنويا، أي أنّ حوالي نصف الموازنة عبارة عن رواتب ومنافع إجتماعية، وهي النسبة الأعلى عالميا، كما تتضمن الموازنة حوالي 24 تريليون نفقات طارئة، يمكن استخدام جزء منها كرواتب إضافية، ومن المتوقع أن تبلغ النفقات الشهرية للرواتب وملحقاتها حوالى 12 تريليون ليرة لبنانية شهريا، أي ما يوازي 144 تريليون ليرة لبنانية سنويا.
وتوقّع أن تبلغ الزيادة التي تمّ إقرارها في مجلس الوزراء في جلسته الاخيرة التي عقدت يوم الأربعاء الفائت، نحو 2927 مليار ليرة شهرياً، أي ما يعادل 35 تريليون ليرة لبنانية سنويا، وهو رقم يفوق ما هو موجود في حساب الإحتياط والبالغ 24 تريليون ليرة، متسائلا: من أين ستأتي الحكومة بالباقي وهي الغير قادرة على الإستدانة من السوق بعد إعلان تعثّرها، وهل ستلجأ الى مصرف لبنان للطباعة، وهو ما يعيد حالة التخبّط في سعر صرف الدولار مجددا؟
تعطيل القطاع العام يعطّل قرينه الخاص!
هذه الزيادات تعيد إلى الأذهان، ما حصل أثناء إقرار سلسلة الرتب والرواتب، وهذا ما أشار إليه عكّوش بأنّنا عدنا إلى نقطة ما قبل الأزمة وكأنّ التاريخ يعيد نفسه، عندما تمّ إقرار سلسلة الرتب والرواتب، من دون أي إصلاح حقيقي لرفد الموازنة بمزيد من الإيرادات، ووقف التهرب الجمركي والضريبي، وقال: “ما نتخوّف منه أنّ ما أعطي للموظفين في اليمين سيكون السوق بانتظارهم ليأخذه منهم باليسار”.
ولفت الى أنّ القطاع الخاص قادر على تكييف نفسه، شرط تأمين الخدمات الضرورية من الدولة اللبنانية، وهذا ما يحصل اليوم، فيما يعيق تعطيل القطاع العام عمل القطاع الخاص، لا بل يدمّره بعض الاحيان، فمثلا: تراكم الحاويات في مرفأ بيروت، وخاصة تلك التي تحتوي على مواد تحتاج الى برادات وتفريغها بشكل سريع، كان سيهدد رساميل هذه الشركات وما تبقى من سيولتها بعد الأزمة، وفي حال استمرار هذا التعطيل فإنّ القطاع الخاص سيكون ضحية الحكومة، والقطاع العام الذي يريد أن ينتحر وينحر معه القطاع الخاص، الذي تقوم عليه واردات الدولة ومنها يتم دفع رواتب القطاع العام .
ماذا عن اسعار السلع والخدمات… هل ستطير؟
شرح عكّوش بأنّ التضخم بدأ يظهر بشكل واضح، بعد تزايد حجم التكاليف التي يتكبّدها القطاع الخاص والناتج عن عدة عوامل، منها ارتفاع كلفة الشحن والتأمين، إرتفاع إشتراكات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، بعد تفرّد الصندوق بفرض رواتب بعيدا عن قرارات الحكومة اللبنانية، إرتفاع كافة الرسوم والضرائب، لاسيما الرسوم الجمركية والقيمة المضافة والطابع المالي على كل فاتورة بمقدار 200 بالمئة عما كانت عليه قبل الأزمة، وكل هذا أدّى إلى مزيد من إرتفاع الاسعار، وهو مرشح إلى مزيد من الارتفاعات، وكل هذه الأمور ستؤدّي حتما إلى الإنحدار أكثر نحو مزيد من الطلبات لزيادة الرواتب والأجور مجددا وبشكل دائم، لأنّ ما يحصل هو الدوران في حلقة مفرغة، وهذا سيؤدي حتما إلى مزيد من انخفاض قيمة الليرة اللبنانية، وبالتالي العودة الى الشارع والتعطيل .
ونبّه عكّوش إلى أنّ ارتفاع الدولار في هذه الحالة لن يكون له سقف، وحدها وجود خطة عمل تضمن عدم تجاوز الموازنة، وعدم اللجوء لمصرف لبنان للطباعة، وخطة تعطي بشكل عادل مقنع للجميع، بعد إجراء مفاوضات شفافة واضحة يتّم خلالها التوافق على الخطة المرفقة بخطوات إصلاحية، ترفد الخزينة بمزيد من الواردات دون أن نحمّلها للطبقات الفقيرة . وختم: “باعتقادي أنّ هذا الأمر مستحيل”.
خلاصة القول… خطوة زيادة رواتب القطاع العام أمر أكثر من ملّح، لاعتبارات أبرزها منع انهيار الدولة وإنقاذ موظّفيها من ذلّ العيش، بعدما تآكلت رواتبهم بشكل دراماتيكي، ولكن للأسف، دائما ما تأتي الخطوات منقوصة، ما يدفع للتساؤل: ما الذي يمنعها من الإصلاح الشامل؟ وبعبارة أدقّ: “من الذي يمنع الإصلاح ويحاول الترقيع وسدّ عجز الدولة بتأمين إيراداتها من جيب المواطن المرقع أصلا بسبب الفقر”!
يمنى المقداد – الديار
Follow Us: