هما حربان داخل رقعة جغرافية محدّدة ومحدودة لكل منهما، والمقصود هنا طبعاً أوكرانيا وغزة. لكن الوقائع تشير الى تداعيات على المستوى العالمي، حيث أنّ الخريطة السياسية لن تعود كما كانت قبل انفجار بركان أوروبا وفتح أبواب الجحيم في الشرق الأوسط.
في الأساس كان السباق قائماً بين واشنطن وموسكو لبسط النفوذ على البحر الأبيض المتوسط. فمياهه الدافئة تشكّل عامل إغراء لخروج روسيا من القمقم الجغرافي الذي يحصرها خلف مضيق البوسفور عن حركة التجارة العالمية وممراتها البحرية.
ولذلك سعى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لتركيز أقدامه في طرطوس عند الساحل السوري وأيضاً على الساحل الجزائري وما بينهما الساحل الليبي.
في المقابل ومع وصول جو بايدن الى البيت الأبيض، أيقظت واشنطن حلف «الناتو» من ثباته العميق، وعملت على صوغ استراتيجية جديدة له طابعها هجومي، على دوي المدافع في أوكرانيا. تكفي الإشارة الى أنّ للولايات المتحدة الأميركية نحوي 750 قاعدة عسكرية موزعة على 80 دولة.
ومع فتح أبواب الجحيم في غزة، كان لا بدّ من إعادة صوغ رؤيا سياسية جديدة في هذه المنطقة التي كانت تخضع أصلاً لرسم خريطة نفوذ سياسية جديدة. وهكذا فرضت حرب غزة وتداعياتها حشوداً بحرية أميركية نوعية طاولت للمّرة الأولى منذ زمن بعيد المياه الدافئة للبحر المتوسط. وعلى مسافة غير بعيدة بدأت حرب بحرية، ولو بمستوى مخفوض في البحر الأحمر، حيث الممرات المائية لشرايين التجارة العالمية. كان واضحاً أنّ واشنطن التي تبني هيبتها العسكرية العالمية على مدى سطوتها البحرية، أرادت إعادة فرض نفسها من باب حرب غزة، عبر تأكيد نفوذها على الممرات المائية الإستراتيجية مثل قناة السويس ومضيق هرمز والبحر الأحمر.
ورغم الاتفاقات التي كانت طهران قد صاغتها مع بكين وموسكو، إلاّ أنّها شعرت بوحدتها خلال الأشهر الماضية. ووفق كل ما سبق يمكن فهم معنى المناورات البحرية الصينية ـ الروسية ـ الإيرانية التي بدأت في المياه الإقليمية الإيرانية الثلثاء الماضي، والتي سيطاول جزء منها المياه الإقليمية لسلطنة عمان. صحيحٌ أنّ هذه المناورة والتي حملت عنوان «حزام الأمن البحري 2024» بقيت دون مستوى التحدّي، إلاّ أنّها حملت رسائل تحاكي النزاع القائم حول الممرات المائية في البحر الأحمر.
فإيران التي تخوض مواجهة بحرية صعبة من خلال الحوثيين، تريد الإيحاء بأنّها ليست معزولة، وهي تتمتع بسند دولي وازن في مواجهة القوة البحرية الأميركية والأوروبية. لكن الوقائع التاريخية أظهرت أنّ واشنطن لا تساوم على مضيق هرمز وقناة السويس، حيث يمّر يومياً ما يوازي 17% من الطلب العالمي على النفط.
وفي موازاة ذلك تسعى موسكو للاقتراب من دون إحداث جلبة من قناة السويس، وذلك عبر السعي للحصول على قاعدة بحرية على الشاطئ السوداني، ما يجعلها قادرة على التأثير في الحركة البحرية. فعلى رغم من الأهمية الجغرافية والاستراتيجية لقاعدة طرطوس إلاّ أنّها لا تتمتع بالمواصفات البحرية الطبيعية والعملانية التي تجعلها قادرة على استقبال القطع البحرية العسكرية الكبيرة والنوعية، ما جعل موسكو تبحث عن قاعدة عسكرية بحرية عند الساحل الليبي الشرقي.
ووفق ما سبق، يمكن قراءة الخطوة البحرية الأميركية تحت عنوان فتح ممر بحري لإغاثة أهالي غزة والتي تمتد من قبرص وصولاً الى شاطئ غزة. وهو خط عسكري يشكّل حاجزاً أمام التواصل الذي تريد موسكو إقامته بين طرطوس السورية وطبرق الليبية.
هو السباق القائم شرق البحر المتوسط والذي يدخل في صلبه الشاطئ اللبناني. وأخيراً أستقبل لبنان الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكشتين الذي وضع تصوره وغادر على أمل العودة مع بدء هدنة رمضان في غزة. لكن الهدنة لم تحصل بعدما انهار اتفاق القاهرة، وهو ما يعكسه الطرفان المعنيان بالقتال، أي إسرائيل وحركة «حماس». لكن وعلى رغم من النزاع الكبير القائم بين الحكومة الإسرائيلية وإدارة بايدن، ثمة تقاطعات عدة منها ما يتعلق بالوضع في لبنان. والمقصود هنا وجود تفاهم مشترك على تعديل الحجم العسكري لـ»حزب الله». إسرائيل لأسباب تتعلق بأمنها، وواشنطن لأسباب أوسع تتعلق بإخضاع قرار الدولة اللبنانية، وبالتالي منح إيران موقعاً أساسياً على الساحل اللبناني.
لكن السؤال الذي يقضّ مضاجع اللبنانيين حول ما إذا كانت إسرائيل تستعد فعلياً للإنتقال من الحرب المضبوطة الى الحرب المفتوحة على لبنان؟ ذلك أنّ ارتفاع منسوب الحماوة والتوسع في دائرة المناطق المستهدفة، والتي طاولت بعلبك لمرات عدة، كل ذلك رفع من منسوب القلق حيال مسار الأمور.
لكن إذا كان صحيحاً وجود تقاطع أميركي ـ إسرائيلي حول ضرورة تعديل «الوظيفة» العسكرية لـ»حزب الله» من خلال الضغوط الديبلوماسية والميدانية، إلّا انّ هنالك اعتراضاً أميركياً حاسماً لسعي إسرائيل الإنتقال من الحرب المضبوطة الى الحرب المفتوحة. وصحيح أيضاً أنّ الخلافات الكبيرة بين الحكومة الاسرائيلية والإدارة الأميركية حول مسار الحرب في غزة كانت تنتهي دائماً الى تغليب الرأي الإسرائيلي على الأميركي ميدانياً، إلّا أنّ الشروط في لبنان مختلفة. ففي غزة أرجحية القرار تكون لمصلحة إسرائيل، بخلاف الواقع في لبنان، حيث أرجحية القرار تكون لواشنطن. لكن هذا لا يعطي ضماناً نهائياً في ظل جنون الحكومة الإسرائيلية المتطرّفة.
وحين جدّدت اسرائيل غاراتها على بعلبك، تبيّن أنّها تركّز على مواقع محدّدة لـ»حزب الله» مثل مخازن الصواريخ الدقيقة والمسيّرات والصواريخ ضدّ الدروع. وتفسير ذلك أنّ هذه الغارات تُعتبر تحضيراً إسرائيلياً يمهّد للشروع في الحرب. «حزب الله» من جهته لا ينفي الأهداف التي تتوخاها اسرائيل من غاراتها، لكنه يضيف أنّ المعلومات التي تتحرك إسرائيل على أساسها قديمة وتمّ تبديلها، وهذا ما حدث أيضاً في الغازية.
ويبدو ردّ «حزب الله» على الغارات الإسرائيلية مدروساً ويحاذر الإنزلاق الى الحرب. ربما لإدراكه أنّ مجانين إسرائيل يريدون توسيع دائرة الجحيم كون مستقبلهم السياسي على المحك، في وقت لا تزال واشنطن تضغط لمنع الانزلاق الى الحرب المفتوحة ولو بشروط، وهو ما ظهر مع زيارة هوكشتين.
ولأنّ «حزب الله» لن يفاوض قبل وقف إطلاق النار في غزة، فالأمور مرشحة لأن تبقى تراوح مكانها ولو مع احتمال ارتفاع مستوى السخونة بعض الشيء.
أما على مستوى الإستحقاق الرئاسي، فهو سيبقى في الثلاجة خصوصاً أنّه مرتبط فعلياً بالصورة التي سترسو عليها التسويات الكبرى، ولا سيما منها التسوية في جنوب لبنان. واستطراداً فإنّ كل ما حُكي عن حركة من هنا أو من هناك يبقى في إطار الحركة بلا بركة. فـ»حزب الله» متفق مع الرئيس نبيه بري على أن لا رئاسة قبل وقف النار في غزة وبالتالي اتضاح المشهد الآتي. لا بل أنّ معلومات «حزب الله» هي أنّ زيارة النائب علي حسن خليل لقطر إنما هدفت في شكل أساسي للاطلاع على المفاوضات التي حصلت في قطر وآخر المعطيات السياسية حول غزة. أما التطرّق الى الملف الرئاسي فسيكون جانبياً، وفق مصادر «حزب الله». أضف الى ذلك، الاقتناع الموجود لدى «حزب الله» وعدد من الأفرقاء اللبنانيين كما لدى سفراء «المجموعة الخماسية»، أنّ أي خطوة رئاسية جدّية لا يمكن إلاّ أن يكون الحضور السعودي فيها أساسياً، وهذا ما لا يبدو حالياً.
وفي الإطار نفسه، فإنّ مصادر «الخماسية» نفت ما حُكي عن التحضير لاجتماع في بيروت على مستوى وزراء الخارجية، ولا حتى على مستوى وكلاء وزراء الخارجية. وأنّ الحركة الوحيدة المتاحة حالياً هي في الاستمرار على مستوى السفراء ووفق الإيقاع نفسه، انتظاراً للتطور المنتظر في غزة، وقبل أن يسبق الوقت الجميع.
فلقد كان لافتاً استطلاع الرأي الذي أجرته القناة 12 الإسرائيلية، حيث أيّد 44% من الإسرائيليين عودة دونالد ترامب الى البيت الأبيض في مقابل 30% فضّلوا فوز جو بايدن. كذلك سجّل ارتفاع شعبية نتنياهو من 16% في تشرين الثاني الماضي الى 29% في الاستطلاع الحالي. صحيح أنّ غانتس لا يزال يحظى بالغالبية مع 41%، لكن تحسن شعبية نتنياهو يشي بكثير. ومن هنا وجوب التحوط والحذر.
جوني منيّر – الجمهورية