بخلاف الأجواء التفاؤلية التي سادت الأجواء الإعلامية حول قرب حصول الهدنة في غزة، إلّا أنّ أجواء بيروت لا تشي بشيء من هذا القبيل، لا بل على العكس، ووفق هذه المعطيات يتصرف «حزب الله».
لا بل أنّ هنالك قناعة في الضاحية الجنوبية بأنّ الإدارة الأميركية متفاهمة على الكثير من العناوين مع الحكومة الإسرائيلية، وأنّ الخلاف الظاهر قد لا يعكس صحة المشهد الحقيقي، رغم وجود خلافات في وجهات النظر في مسائل أخرى، كمثل الأثمان الدامية التي يدفعها المدنيون. فالإدارة الأميركية تريد عملية عسكرية «نظيفة» في رفح، فيما لا يأبه نتنياهو للمجازر التي تحصل، ويضع الأولوية لتدمير «حماس» ودفع الفلسطينيين خارج غزة.
إذاً، ووفق حسابات بيروت، لن تتحقق الهدنة قريباً، وهو ما يعني أنّ «الحرب المضبوطة» ستستمر على وتيرتها الحالية في لبنان، رغم المفاوضات الحاصلة في الغرف المغلقة بين واشنطن وطهران، والتي من المفترض أن تكون تتركّز حول التسوية العريضة وخارطة النفوذ السياسي للمرحلة المقبلة.
وهو ما يعني بأنّ صورة الميدان أصبحت واضحة، ما يسمح بالدخول الى نسج المعادلة الإقليمية الجديدة. وهذا الواقع يمكن قراءته من زاوية مختلفة، والمقصود هنا الزاوية الخليجية. فللمرّة الأولى منذ 7 تشرين الأول الماضي بوشر بفتح النقاش العلني حول الفائدة التي جناها الفلسطينيون والتي نتجت من عملية «طوفان الأقصى». صحيح أنّ هذا النقاش بدأ على مستوى أصوات إعلامية إلّا أنّه يخرج الى العلن الكثير من الهمس الذي واكب تطورات الحرب على غزة. وهو يعكس ضمناً إقراراً بأنّ المعارك والمواجهات العسكرية أصبحت في فصلها الأخير، وأنّ الوضع بات يستلزم التحضّر لمرحلة «اليوم التالي» منذ الآن، لاسيما وأنّ القلق يبقى قائماً حول استثمار وتوظيف معارك غزة داخل الساحات العربية لمحاصرة العديد من أنظمتها، ولِمَ لا إضعافها وإسقاطها.
وما يرفع من مستوى التوجّس، التقرّب الذي تسعى إليه إيران مع التيارات الإسلامية المحسوبة على حركة «حماس» مثل الإخوان المسلمين، أضف الى ذلك لهيب المعارك البحرية الدائرة في البحر الأحمر والتي تهدّد الدورة الإقتصادية لدول الخليج.
وخلال الأيام الماضية حصلت تسريبات إعلامية من العيار الثقيل وتحمل رسائل سياسية واضحة. التسريبة الأولى جاءت من واشنطن حول مفاوضات غير مباشرة جرت منذ حوالى شهرين بين الإدارة الأميركية وطهران في سلطنة عمان، وتناولت الوضع الأمني في الشرق الأوسط والحرب البحرية الدائرة في البحر الأحمر. لكن طهران التي أخذت وقتها قبل ان تصدر بيانها التوضيحي، نفت الشق المتعلق بقيامها بالضغط على الحوثيين، ولم تنف خبر التفاوض الغير مباشر. والانطباع الأولي، أنّ التسريب هدفه تذكير طهران بوعود ما تتعلق باليمن، فيما الردّ الإيراني عكس حرجاً لدى الإيرانيين. وهذا ما يدعم الهمس الموجود بأنّ الحوثيين «شطحوا» من عندياتهم، وإيران تحاول معالجة الموضوع بروية. وما يدعم هذا الإستنتاج ارتفاع كميات بيع النفط الإيراني في السوق السوداء إلى مستويات عالية، وهو ما جعل خزينة إيران المالية في وضع مريح نسبياً. كذلك، فإنّ الهمس الدائر في الكواليس الديبلوماسية بأنّ إيران حسمت أمرها وسترسم خطة عمل يستفيد منها جو بايدن في انتخاباته الرئاسية. وهذا يعني الكثير من دون شك.
أما التسريبة الثانية، فجاءت من طهران عبر وكالة «رويترز»، حول زيارة الجنرال قآني الى الضاحية الجنوبية في كانون الثاني الماضي، حيث التقى أمين عام «حزب الله». وفي هذه التسريبة التي حرصت وكالة «رويترز» على إبراز تأكيد ثماني مصادر لها، خمسة منهم في طهران، جاءت الرسالة واضحة ومفادها بأنّ إيران لا تريد الحرب في لبنان. وهذه رسالة جوابية لمطلب أميركي دائم بعدم توسيع دائرة الحرب في لبنان. ولفت هنا بأنّ لا طهران ولا «حزب الله» أصدرا بياناً ينفي ما أوردته «رويترز»، وهو ما يعني تأكيداً ضمنياً للخبر. وفي كل الأحوال فإنّ السيد نصرالله وخلال إطلالاته الأخيرة ولاسيما آخر واحدة، أعلن بوضوح وبطريقته اللبقة بأنّ «حزب الله» يريد تجنّب الحرب.
في الواقع لا بدّ أن تكون مفاوضات سلطنة عمان قد شملت الساحة اللبنانية، ولو أنّ التسريبة الإعلامية لم تأتِ على ذكر ذلك. فمن البديهي أن تكون الجبهة اللبنانية حاضرة عند الكلام مع إيران حول الوضع الأمني في المنطقة ومناطق نفوذ إيران. وجاءت بعدها زيارة الموفد الأميركي آموس هوكستين الى بيروت من ضمن هذا المسار.
وكي لا نبالغ في الإجتهاد، فإنّ المسار التفاوضي بحاجة للمزيد من الوقت ولو أنّ ظروفه تبدو جيدة حتى الآن، وهو ما يمكن استنتاجه ليس فقط من مجريات «الحرب المضبوطة» في لبنان بل خصوصاً مع نجاح قآني في لجم الجماعات المحسوبة على إيران في كل من سوريا والعراق، وتوقفها بالكامل عن استهداف أو حتى مجرد «التحرّش» بالقواعد أو المواقع العسكرية الأميركية.
وفي المقابل، يضع كثيرون ارتفاع مستوى التوتر لدى رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في إطار القلق من التفاهمات التي تنسجها إدارة بايدن مع طهران.
وقد يكون وفق هذه الحسابات يتحرّك «حزب الله» على الساحة اللبنانية. وبخلاف المواقف المعلنة فهو يحاول الربط بين الملف الجنوبي ذي الطابع الإقليمي والملف الداخلي. وثمة من يقول أنّه أرسل رسالة تطمين لسليمان فرنجية بألّا يتأثر «بالهوبرات» الإعلامية والاستعراضات الحاصلة، والتي لا تهدف سوى لملء الوقت. وقيل بأنّ فرنجية بدا مرتاحاً بعد استلامه الرسالة التطمينية. وفي المقابل فإنّ الحركة التي سيقوم بها سفراء الدول الخماسية لا يبدو أنّها تحمل مضموناً جدّياً، بل ستكون أقرب الى الإستكشاف وسماع المواقف. وبدا أنّ السفير القطري هو من دفع باتجاه ترتيب هذه الجولة خصوصاً أنّ حصول الإجتماع الأخير في دارته يعطيه هذه «المونة».
وفي الوقت نفسه سيزور وليد جنبلاط الدوحة هذا الأسبوع تلبية لدعوة قطرية، على أن يليه جبران باسيل، ولو أنّ موعد زيارته لم يُحدّد بعد. أما ما قيل عن دعوة الرئيس نبيه بري الذي عمد الى إيفاد علي حسن خليل فهو كلام غير دقيق. فصحيح أنّ الرئيس بري كان قد تلقّى دعوة لزيارة الدوحة، ولكن ذلك حصل قبل «طوفان الأقصى»، حيث أدّى اندلاع الحرب الى وضعها جانباً، أما زيارة خليل فجاءت ظروفها مختلفة.
وفي أي حال، فإنّ وزارة الخارجية الأميركية تركّز على الموقف السعودي، والذي تعتبره أساسياً في صياغة الحل في لبنان، وهي في الوقت نفسه لا ترى أنّ ظروف الحل قد نضجت في لبنان بانتظار المشهد النهائي للحرب في رفح. وما لا تقوله مصادر وزارة الخارجية الأميركية قد يكون بأنّها تنتظر أيضاً ما ستؤول إليه المفاوضات مع إيران. لكن هذه المفاوضات لن يطول بها الوقت أو من المفترض ذلك. فإذا كان صحيحاً أنّ طهران حسمت خيارها الإنتخابي الأميركي لصالح جو بايدن فهذا يعني أنّ ورقة التسوية الكبرى في المنطقة يجب أن يرفعها بيده خلال الصيف المقبل وقبل نهايته كحدّ أقصى. وهو ما يعني أيضاً أنّ الملف اللبناني بكامل تشعباته الجنوبية والرئاسية لا بدّ أن يكون قد وجد طريقه للحل قبل هذا الموعد.
مع الإشارة هنا وخلافاً لكل ما يجري التداول والتكهن به، فإنّ الخيارات الرئاسية الجدّية المطروحة على الطاولة كما يراها «حزب الله» تتمحور حول اسمين فقط لا ثالث لهما، وهما سليمان فرنجية وقائد الجيش العماد جوزف عون، «وخيارنا معلن ومعروف ونحن متمسكون به وهو سليمان فرنجية» كما تقول أوساط «حزب الله».
جوني منيّر – الجمهورية