في خضم الحديث عن مفاوضات تتقدم وتتعثر بشأن التوصل الى هدنة طويلة في غزة كخطوة أولية، كما تحاول ان توحي بعض الاطراف الدولية، وذلك تمهيداً للتوصل الى وقف لإطلاق النار، يزداد التصعيد العسكري الاسرائيلي سواء على الارض أو في الاهداف: نتنياهو يكرر أن العملية في رفح ستحصل، حتى لو تأخرت بعض الوقت، ويلخص “معادلة رفح” بما يأتي: عدم التحرك في رفح يعني خسارة الحرب. كما ان التصعيد في الضفة الغربية استقر كمسار آخر في الحرب الاسرائيلية من خلال ازدياد اعمال القمع والعنف ضد الفلسطينيين، خصوصا في منطقة جنين، في ظل العديد من المؤشرات التي تدل على قيام انتفاضة جديدة (ثالثة) في الضفة، والتي في ظل الحرب الدائرة قد تأخذ مجرى اكثر حدة من الانتفاضتين السابقتين في تاريخ الضفة الغربية. في الاطار نفسه، حوّلت #إسرائيل القدس الشرقية الى “ثكنة عسكرية” تحضيراً لما قد يحصل من تطورات في شهر رمضان من حصار ومحاصرة للمسجد الاقصى بواسطة المتشددين الدينيين أو بسبب سياسات الخنق والتضييق التي تقوم بها إسرائيل، الامر الذي يشكل صاعق تفجير كبير، سيكون من الصعب احتواء نيرانه إذا ما حصل.
التصعيد الثالث في الحرب الاسرائيلية يحصل على الجبهة اللبنانية من خلال التصعيد النوعي في الاهداف عبر ما يُعرف بالضربات الجراحية أو الاجتثاثية التي تطاول أهدافاً استراتيجية عند العدو. وتتخطى تلك الاعمال الحربية ما يُعرف بالمواجهة العسكرية التقليدية، الامر الذي يوسع بشكل كبير جغرافياً الحرب الدائرة، كما يزيد من مخاطر التصعيد.
عنوان الحرب الاسرائيلية القضاء على فكرة اقامة دولة فلسطينية حتى في المستقبل البعيد وحتى كعنوان للتهدئة و”خفض الصراع”. الهدف هو الفصل كليا ونهائيا بين غزة والضفة الغربية والتعامل معهما على هذا الاساس، وفرض ذلك على الآخرين باعتبارهما كيانين منفصلين يحتلان موقعين مختلفين في الرؤية الاستراتيجية الاسرائيلية للصراع الدائر: الضفة الغربية والقدس الشرقية هما جزء من إسرائيل الكبرى التي تجري عملية تعزيز اقامتها من خلال تهويد الجغرافيا والديموغرافيا كما نذكر دائما. أما “كيان” غزة فهو مشكلة امنية استراتيجية من حيث الاهمية بالنسبة الى إسرائيل، وهنالك خط احمر عند الحكومة الاسرائيلية يرفض الاعتراف بأي ترابط بين الضفة الغربية وغزة. الاخيرة يجب ان تخضع للسيطرة الامنية والعسكرية الإسرائيلية وتنتظم الحياة فيها مستقبلا تحت اي ادارة فلسطينية يمكن اقامتها بالطبع بموافقة اسرائيلية؛ أي نوع من الحكم الذاتي يبقي القطاع تحت السيطرة الاسرائيلية.
يدفع ذلك الى طرح بعض الاسئلة والتساؤلات في ما يتعلق بالاستراتيجية الاسرائيلية في الحرب القائمة على الجبهات المشار اليها: إسرائيل التي صارت اسيرة الاهداف المرتفعة السقف جدا على الجبهتين الفلسطينية واللبنانية: هل ستتبع إسرائيل استراتيجية استنزاف طويلة الامد رغم كلفتها ومخاطرها عليها ايضا سواء على الجبهة اللبنانية أو الفلسطينية؟ استراتيجية استنزاف ستكون مكلفة بالطبع ايضا لإسرائيل، وتشهد تصعيدا وتخفيضا في القتال بغية تحقيق اهدافها الصعبة وغير الممكنة، طالما لا توجد ضغوط دولية فاعلة لوقف كلّي للحرب كبديل أكثر من ضروري لسياسات الهدن القصيرة والطويلة. السياسات التي تهدف الى تنفيس الاحتقان بعض الشيء أو التقاط الانفاس في حرب ممتدة في الزمان وربما في المكان. حرب استنزاف يدل الكثير من المؤشرات الى انها قد تستقر كجزء من المشهد السياسي في المنطقة لفترة لا يدري احد حاليا متى أو كيف ستنتهي على الجبهات القائمة، وما هي مخاطر تداعياتها على الاقليم وحجم هذه التداعيات، وبأي كلفة بالنسبة الى الجميع .
متى تحين لحظة التعب؟ سؤال يبقى مطروحا في مشهد شديد التعقيد ومفتوح على كل الاحتمالات أو السيناريوات: ترابط في القتال على الجبهات من جهة، واختلاف أو فك ارتباط بين التسويات او التفاهمات التي ستوقف القتال على تلك الجبهات، لكنها لا تنهي النزاع من جهة اخرى. أيّ ترتيبات في غزة وفي جنوب لبنان غداً، ومتى يأتي ذلك الغد؟ ترتيبات تبقى انتقالية ومفتوحة في الزمان على كل الاحتمالات طالما لم يتم التوصل الى تسوية سياسية سلمية شاملة امامها الكثير من العوائق والتحديات. ليس ذلك بالأمر السهل ولكنه ليس بالأمر المستحيل.
الدكتور ناصيف حتي – النهار