قبل انطلاق عرضه، كانت الفكرة السّائدة التي صدّرتها الدعاية المسبقة، أنّ مسلسل #”ع أمل” (بطولة ماغي بو غصن، بديع أبو شقرا، مهيار خضور وعمار شلق) هو عمل ينتصر لحقوق المرأة، يسلّط الضّوء على العنف المستشري في المجتمع، عنف مستتر خلف أقنعة تسقط عند أوّل اختبار، عمل يشبه الحملات الدّعائيّة للجمعيات النّسوية، يغالي في إظهار كدمات الجّسد والرّوح دون أن يقدّم أو يقترح حلولاً، وإن اقترح لا يجد آذاناً صاغية، إذ لا رأي لمن لا يطاع.
لكن مع انطلاق الحلقات الأولى انقلب المشهد، فالقصّة تحتمل كل الأوجه، الشّخصيات معجونة بالوجع نساءً ورجالاً، السّرد بعيد جداً عن الوعظ المباشر، الإيقاع متصاعد، تتشعّب القصص، تختلف الروايات، تحتشد الشخصيات، لا يربط بعضها بالبعض الآخر شيء، ويربطها الكثير.
بذكاء أعدّت الكاتبة ندين جابر حبكتها، عن يسار (ماغي بو غصن) المذيعة الصّدامية، التي تتّخذ من الدّفاع عن المرأة قضيّتها، على طريقة المذيعة المصرية رضوى الشربيني تحرّض النّساء على الانتفاض، ودون أن تدري، ودون أن تعترف، تحرّضهن على الرّجال. عندما تنقلب النّسوية على مبادئها، وتتحوّل إلى عنصريّة نابعة من قهر دفين.
لا ينتظر المشاهد كثيراً ليتبدّد الغموض، يسار القادمة من عائلة لا تزال تعيش في العصور المظلمة، قتلها شقيقها لسببٍ لا يزال مجهولاً، حالفها الحظ لتنجو وتخضع لعملية تغيير مظهرها، درست وتعلّمت ونجحت وباتت مذيعة معروفة، تخفي حقيقتها، وتكشف الكثير.
هي مذيعة تختبئ أمام الكاميرا، تهرب إلى الأضواء، نتساءل أخفت وجهها وكيف أخفت صوتها؟ أم أنّ مسافة ربع قرنٍ على ابتعادها جعلت الأخ ينسى صوت اخته الذي أخمده غسلاً للعار، ثمّ سمعه على شاشة التلفزيون يحرّض ضدّ الذّكورية ولم ينكأ الصّوت ذاكرته.
تلعب ماغي دورها ببراعة، الدّور صعب، تنتقل بين الأم الموجوعة بأمومتها، الإبنة التي تلتقي بوالدتها سراً، الأخت التي طعنت من أقرب الناس، والحبيبة التي تهرب من الحبيب خوفاً من ارتباط هي التي تكره القيود، وبين مذيعة فولاذية، تقول للنساء أنتنّ أجمل ما في الكون، تعطيهن قوّة، تتبنّى قضاياهن ولو قادتها إلى المساءلة ونقلتها إلى قلب المعركة. تخوض حروب الكل، وعندما تلوح معركة في حربها الخامدة تهرب كجندي جبان ترك أرض المعركة في زمن الحرب. الخوف كبير والذّاكرة لم تنسَ بعد.
حول قصّة يسار تدور كل الشخصيات الأخرى، لكنّ يسار ليست البطلة المطلقة، فلكل شخصيّة مكانها في سياق الأحداث، كما قطع البازل لا تتّسق اللوحة كاملة إنّ غابت قطعة.
في القرية خطّ درامي جذّاب، يبدع رامي حنا في نقل الأجواء القاتمة بطريقة سلسة، لا يتسلّل السّواد إلى قلب المشاهد، بل نقمة ورغبة في أن تتصاعد الأحداث لتنقلب الصّورة ويتجرد الجلاّد من سطوته.
تتساءل هل ثمّة قرية كهذه في لبنان؟ هل ثمّة رجل يتزوّج ثلاث نساء ينكّل بهن وينصعن له صاغرات؟ هل ثمّة عائلة تقوم بأكملها على رضا سي السّيد، يطأطئ كبيرها وصغيرها رأسه أمامه خوفاً لا احتراماً؟
بعيداً عن القرية المتخيّلة، ثمّة نساء مقهورات، يتألمن ولا يشعر بألمهن أحد، يأتي عمل كهذا ليضع الأصبع على الجرح، ويتلو عذابات النّساء بسياق درامي سلس.
تبدع كارول عبود بدور الزّوجة الأولى المقهورة، هي من الزوجات القليلات اللواتي لم يشعرن بالقهر حين جاءها زوجها سيف (عمار شلق) بعروس، تزوّجته رغماً عنها وهي تحمل في قلبها حباً كبيراً. صراعها مع ضرّتها (إلسا زغيب) يعكس صراع الضعيف مع الضعيف، حيث الهزيمة للأضعف. انتصارات صغيرة تحقّقها كلّ منهما، تشعرها بالقليل من السطوة مقابل سطوة زوج هدم فيها كل معالم العنفوان والكرامة.
مشهد الضرّتين متعانقتين بعد وفاة والدة إحداهما مؤثر.
يلعب عمار شلق دوراً شرساً، يذكّر بدوره في مسلسل “ثواني” حيث لعب دور الرجل متعدّد الزيجات، رجل يحتقر المرأة، في المسلسل الأوّل انتفضت الزوجة، على أمل أن تنتفض في “ع أمل”.. يبدو أنّ الأمور تذهب في هذا الاتجاه وإلا فلا أمل.
ملامح شخصية سيف، الذي أراد الانتقام من زوجتيه فأحضر لهما ضرّة ثالثة، الذي قتل شقيقته دون رحمة، وربّى ابنتها على الشّعور بالعار، الذي يخجل من الظّهور بصورة رجل من لحم ودم، بدت أكثر إنسانية عندما باغته موت والدة زوجته، ووجد نفسه أمام دموعها ضعيفاً. نتساءل كيف لم تصفعه دموع شقيقته عندما ارتكب جريمته؟ ننتظر الحلقات المقبلة لنجد أجوبة عن أسئلة كثيرة.
يسلّط المسلسل الضّوء على نساءٍ قهرن القهر، ريان حركة مثال، كسرت قيد العائلة ودرست في الجامعة سراً، نقطة مضيئة في قرية مظلمة لم تورث نساءها سوى القهر.
البطولة الجماعية في المسلسل ممتعة، بديع أبو شقرا بدور جلال، العاشق الذي يجد لحبيبته يسار كل الأعذار. هو مرآتها التي شاهدت فيها كل ماضيها، أخفته عن الكل إلا عن جلال، يعذرها كلما أدارت ظهرها وتركته فريسة حبه الشديد لها، هو مثال حي عن أنّ الحبّ وحده لا يشفي، حين يكون الوجع قادم من أعماق القلب، حيث العائلة التي لم تعطِ حباً، عجزت بعدها الرّوح عن إيجاد سكينتها.
ثنائية ماغي وبديع الناجحة من مسلسل “للموت” لم تبد مكرّرة، دائماً لدى بديع ما يدهش حتى لو لعب دوراً سبق له أنّ أدّى مثله.
مهيار خضور الجار الغامض، الذي يخفي بدوره وجعاً كبيراً، في بداية الحلقات بدا شخصية هامشية، اليوم يصنع كل الفرق، يأتي دوره بإيقاع تصاعدي يخبرك دائماً أن لدى هذا الجار الكثير ليقوله.
فرح (ماريلين نعمة) الإبنة الغامضة ليسار، صاحبة الصوت الجميل، دافئة بأدائها، تبشّر بموهبة واعدة، حضورها محبّب لطيف.
نوال كامل الفنانة الكبيرة زينة العمل، الأمّ التي ربّت الوحش سيف، تعيش صراعاً كبيراً، لم تتخلّ عن ابنتها الخاطئة بعرف القرية، ولم تتخلّ عن ابنها القاتل، ننتظر لنعرف لماذا أنجبت هذه الأم الطيّبة كل هذه القسوة؟
تتصاعد أحداث المسلسل بطريقة مشوّقة، لا يخفت إيقاعه، قفلات الحلقات تحثّ على الانتظار، ثمّة أحداث مترابطة غير مفتعلة، تجعل من هذا العمل واحداً من الأعمال الدرامية التي تستحق المشاهدة في رمضان 2024. عتبنا الوحيد عليه، تصويره للمرأة المحجبة بأنّها المرأة المقهورة دوماً، حتى إنّ ريا (ريان حركة) حين انتفضت على عائلتها لتدرس في الجامعة، أوّل ما فعلته هو خلع الحجاب. ننتظر أن نرى في الحلقات المقبلة نموذجاً مضيئاً للمرأة المحجبة التي تبني مجتمعات دون أن يكون حجابها قيداً.
“ع أمل” بطولة #ماغي بوغصن، بديع أبو شقرا، مهيار خضور، عمار شلق، نوال كامل، كارول عبود، إلسا زغيب وغيرهم. كتابة ندين جابر، إخراج رامي حنا، إنتاج “إيغل فيلمز”.
إيمان إبراهيم – النهار
Follow Us: