حسين سعد ـ مناطق
حفرت الجدة زينب خضرا، شغف الأشغال اليدوية الحرفيّة “الكروشّيه”، في ذاكرة واهتمام حفيدتها إيناس محمد قطيش، يوم كانت في السابعة من عمرها، فتعلقت بهذه الحرفة، التي ترافقها منذ أكثر من أربعين عامًا
تتقن إيناس قطيش، ابنة مدينة صور، اليوم، هذا الفن، تصميمًا وتنفيذًا وعرضًا وتسويقًا، بعدما أضحى يجري في دمها، وفي تفاصيل حياتها، متفاخرة بما تنجزه من روائع، تشبه إلى حد كبير أيقونات تكتنز في المنازل، وبين أيدي النساء عمومًا، والأنيقات منهنّ.
دفعت أشغال “الكروشّيه” قطيش، إلى ترك المدرسة في سنّ مبكر، وباتت تصاميم الأشغال والابتكارات، أنيستها الدائمة، دون منازع. بعد أكثر من 35 عامًا، على هذا الشغف الهواية، تحوّل عشق الأشغال عند إيناس قطيش إلى فعل إنتاجي، ومصدر للعيش، خصوصًا بعد رحيل والدها “أبو زينو” الذي ارتبط اسمه بمكتبة العروبة، لبيع الصحف والمجلات أكثر من خمسين عامًا.
حرفة طول البال
منذ ذلك الحين، أيّ قبل نحو عشر سنوات، تكثر قطيش من صناعة الشراشف بأشكال مختلفة، والجزادين وصولًا إلى الخواتم والسوار، وغيرها من الأشغال التي تصمّمها بنفسها، ثم ّتعرض إنتاجها في المعارض الحرفيّة، في صور وغيرها من المناطق اللبنانيّة، على أمل أن تسعفها الظروف والأحوال على فتح مكان دائم، في مسقط رأسها صور، بدلًا من تكديس إنتاجها في الشنط والخزائن داخل منزلها.
تقول قطيش، وهي تستعيد بدايات تعلقها في هذه الأشغال الدقيقة، “التي تحتاج إلى صبر وأوجاع غز الإبر والسنانير، منذ كنت في السابعة، ولدى عودتي من المدرسة، كنت أجد جدتي، التي كانت تقيم في حيفا الفلسطينيّة قبل النكبة في العام 1948، منشغلة بأشغال التطريز والحياكة على الأقمشة، فأرمي حمّالة كتبي ودفاتري جانبًا، وأندفع إلى محاذاها لأدقّق في تفاصيل كلّ ما تقوم به برويّة وهدوء.”
وتضيف قطيش لـ”مناطق نت”: “إنّ لجدتي فضلًا كبيرًا علي، في تعلّم الصبر والإبداع في أشغال الحرف والمقتنيات اليدويّة، وقد صارت مهنة أنحني لها، أمّا أدوات هذه المهنة، فهي من الخيطان والخرز والكريستال والقماش وطولة البال أولًا وأخيرّا”.
شرشف بألف دولار
وعلى قاعدة المثل الصينيّ: “تعلم صنعة وضعها على التتخيتة” (السدة وهي سقف قليل الارتفاع، كانت تستخدم للمؤونة البيتيّة)، فإنّ إيناس قطيش، استفادت من صناعة بعض الشراشف لطاولات السفرة، التي توضع في الصالونات الفارهة، أنجزتها في أواخر الثمانينيّات، من القرن الماضي، فباعت أحدها بألف دولار أميركي أخيرًا.
إيناس قطيش، استفادت من صناعة بعض الشراشف لطاولات السفرة، التي توضع في الصالونات الفارهة، أنجزتها في أواخر الثمانينيّات، من القرن الماضي، فباعت أحدها بألف دولار أميركي أخيرًا.
تعود قطيش، إلى تلك الأيام من العام 1987، حينما أنجزت هذا النموذج على ضوء الشموع وسراج الكاز (القنديل)، ولم تدرِ “بأنّه سيتحوّل بعد عقود إلى تحفة، تباع بهذا الثمن”، مشيرة إلى “أنّ هذا الشرشف (الغطاء) أخذ وقتًا متقطّعًا، على مدى ستّة أشهر، وكنت أنجزه قطعة بقطعة، على شاكلة أزرار الورد، بلغت أكثر من مئة، وجمعتها لاحقًا، فتشكّل منها هذا الغطاء المصنوع بخيطان من الصوف”.
غلاء المستلزمات في لبنان
تشكو قطيش، التي بدأت خطواتها قبل سنوات قليلة، بعرض إنتاجها في “مجمّع باسل الأسد الثقافي في صور”، من ارتفاع اسعار المواد الأوّليّة للكروشّيه في لبنان، ذات المصدر التركيّ بشكل رئيس، لافتة إلى أنّ “أسعار هذه المواد في لبنان، ومن بينها الخرز والكريستال لاستخدام صناعة الجزادين، تبلغ ثلاثة أضعاف الأسعار في تركيّا أو العراق، بحيث يتحجّج التجار في لبنان بارتفاع كلفة الجمارك وضرائبها”.
وحول سوق منتجاتها ومنتجات الأخريات العاملات في هذا المجال، تؤكّد قطيش “وجود إقبال على المنتجات والأشغال اليدويّة، لكن الأمر لا يخلو من تبخيس كثير من الزبائن قيمة هذه الأشغال، وهنّ لا يعرفن قيمة المجهود الذي يُبذل لإنجاز هذه القطع وأكلاف البضاعة (المواد الأوليّة)”. مشيرة إلى “أنّ بعض النماذج من القطع، ومنها الشراشف، مرتفعة الأكلاف من وقت العمل المستغرق إلى المواد، ويتمّ تصنيعها على الطلب”.
وإذا ما كانت نادمة، على ترك المدرسة، وهي في الصفّ الرابع الابتدائيّ والتعلّق بالأشغال اليدويّة على أنواعها، تنفي قطيش ندمها بالمطلق، وتشدّد على أنّ عملها هذا، “هو شهادة بحدّ ذاته، فأنا أصمّم الكثير من الأشغال ولا أقلّد أحدًا”.
تطالب قطيش الوزارات المعنيّة، لا سيما وزارة السياحة اللبنانيّة، بتشجيع العاملات في هذا القطاع، من خلال إقامة معارض في مختلف المناطق اللبنانيّة تفتح آفاقًا جديدة أمامهنّ، بعدما أصبح هذا القطاع مصدرًا اقتصاديًا جيّدًا، في ظلّ التحدّيات الاقتصاديّة والمعيشيّة، التي تواجه اللبنانيين كافة، ومنهم النساء المعيلات.