توصّلت “الخماسيّة” العربيّة ـ الدوليّة إلى خلاصات موجعة:
1 ـ إن هذا الكيان لم يكن يوماً سيّد نفسه. وفي كلّ مرّة كانت تتوافر له ظروف مؤاتية لأن يكون، كان ينقسم على نفسه.
ارتضى أهله، منذ الاستقلال لغاية اليوم، أن يكون مجرّد ساحة مباحة. الناصريّة مرّت من هنا. الثورة الفلسطينيّة. قوات الردع العربيّة. القوات السوريّة… إلى أن وصلنا إلى الحالة التآكليّة. زعماء أتقنوا سلاح الفساد. نهبوا الشعب، استولوا على أموال المودعين، ويستأثرون بما تبقى من رمق دولة ومؤسسات.
2 ـ إن الوطن لا يقوم على تسويات، ومحاصصات بل على أنظمة مرعيّة، وقوانين ملزمة، ودساتير مصانة، وهذا غير متوافر.
حتى التسويات لم تكن يوماً من صنع محلي، بل كانت مستوردة. تسوية الاستقلال، بعد الإنتداب الفرنسي. تسوية الطائف التي فرضتها إرادات غربيّة ـ عربيّة أنهت الحرب الأهليّة. تسوية الدوحة التي أنقذت تسوية الطائف من الانهيار، إلى أن وصل الأمر إلى “الخماسيّة” التي تفتش عن تسوية لوطن مشلّع، ودولة مخطوفة.
3 ـ إن “ازدواجيّة السلاح” أدّت إلى “ازدواجيّة” المعايير، والمقاربات الوطنيّة.
إن “فائض القوّة” حكر على الدولة، وكل “فائض” خارج مؤسساتها، إنما هو “فائض ضعف” لا “فائض قوّة”.
4 ـ إن الحوار يبقى من سابع المستحيلات، إلاّ إذا انتظمت قواعده، وتحرّرت أصوله من مركبات النقص. ميزان الحوار غير متوازن، هناك كفّة راجحة على أخرى. تكافؤ الفرص غير متوافر، هناك من يستقوي ليفرض، والفرض بالقوّة يعني الهيمنة، وثقافة الهيمنة، تتعارض مع ثقافة العيش الواحد، إنها النقيض تماماً.
5 ـ تذكّر “الخماسيّة” بأن 59 بالمئة من الشعب اللبناني قاطع انتخابات أيار 2022، وإن 41 بالمئة فقط توجهوا إلى صناديق الاقتراع، لكن التغيير لم يحصل، بل استمر الانهيار، والهدر، والفساد، والتطلع إلى قارب إنقاذ يأتي من الخارج لإنتشال السفينة المثقوبة من الغرق المحتّم.
هذه الخلاصات، وغيرها، تشكّل بعضاً من عناوين الأزمة الكبرى، المشرّعة على احتمالات كارثيّة شتى تحاكي المصير، والمستقبل، والغموض الكبير الذي يلفّ اليوم التالي للبنان عندما تهدأ جبهة غزّة، وجبهة الجنوب، وجبهة الاستئثار بالقرار.
لم تكمل “الخماسيّة” جولتها على قادة الأزمة. قد تفعل بعد الأعياد، لكنّها غير ملزمة، إجازتها مفتوحة، إلاّ إذا حصل طارىء. مهمتها سارية المفعول، لكنّها بحاجة إلى منشطات حتى لا يدركها الملل، وتلهث نتيجة الدوران في الحلقة المفرغة.
هناك تحولات كبرى تستند إليها، في ترتيب جدول حسابها الجديد:
أولها: إن حرباً إسرائيليّة موسّعة مدمّرة تشمل كلّ لبنان، ممنوعة. هناك قرار كبير متخذ من قبل الإدارة الأميركيّة، بالتنسيق والتوافق مع الفاتيكان، والاتحاد الأوروبي، وبعض عواصم دول القرار صاحبة حق النقض “الفيتو” في مجلس الأمن، قد اتخذ منذ اليوم الأول من “حرب المساندة” لجبهة غزّة. هذا القرار تمليه مصالح تحتّم الحفاظ على قدر من الاستقرار، لإبقاء هذه الساحة قادرة ومتمكّنة من الاضطلاع بالأدوار التي سترسم لها. وإبقاء هذا الوطن ملتقى مصالح، وتنوعات، وثقافات متفاعلة.
إن حرباً طاحنة ضد لبنان، تعني حرباً إلغائيّة، ولبنان حاجة وضرورة للغرب وللشرق مهما تغيّرت الأحوال، والظروف، والمقاربات. إلغاؤه ليس بإنجاز يركن له. وتمكينه يصبح تمكيناً لجسر عبور للمصالح، والاقتصاديات بين القارات، وأيضاً للإستراتيجيات الحديثة…
التحوّل الثاني، ليس من المنطقي ربط جبهة الجنوب بجبهة غزّة، ولا من الممكن تجميد الحلّ هنا، إلى أن يتمّ التوصل إلى حلّ هناك. جبهة غزّة قد تستغرق مسافة زمنيّة طويلة لإنجاز مرتكزات التسويّة، ورفع مداميك الدولة الفلسطينيّة.
هنا يوجد دولة. هناك، مشروع دولة. وبالتالي فإن الفصل بين الجبهتين حقيقة قائمة، وإن جهود الأميركي، تتكامل مع جهود الفرنسي، والقطري، والمصري، والسعودي، لوضع نقطة على السطر، بمعزل عن الورشة الكبرى التي تحدد معالم اليوم التالي في غزّة، وتل أبيب، ودول، وكيانات أخرى في المنطقة.
التحوّل الثالث: لا دويلة في كنف الدولة. إمّا دويلات، أو دولة. تتحزّب “الخماسيّة” للدولة، وتتعاطى مع ما بقي من رموزها، وتراجع حساباتها حول ما يجب فعله لإعادة بناء دولة المؤسسات. هذا جدول أعمالها، وهذه مهمتها مهما طال السفر في متاهات الفراغ.
التحوّل الرابع: إن الضمانات الأمنيّة في الجنوب لا تؤمنها مصالح فئويّة، وتفاهمات جانبيّة. هناك اتفاق الهدنة، والقرار 1701، و”خط أزرق”، وقوات طوارىء دوليّة، ومسؤولون أمميّون، ومتابعات حثيثة من قبل مجلس الأمن الدولي لتطورات الأوضاع، ومستجداتها. كل هذه العناصر يمكن صهرها في المختبر الأممي لإنتاج صكّ الإستقرار.
التحوّل الخامس: إن عناصر الضغط لإحداث مثل هذا التحوّل، لا تأتي من وطن مشلّع، مفكك الأوصال، ولا من حكومة مستقيلة، ولا من نواطير التفليسة، بل من كيان غاصب محتل له سطوته على بعض عواصم دول القرار، وله نفوذه المتمدّد في شرايين أقوى إقتصاديات العالم. إن هذا الكيان يريد ضمانات أمنية موثوقة لإعادة عشرات الألوف من مستوطنيه الذين نزحوا، وتمكينهم من العودة إلى منازلهم تحت مظلّة وارفة بالهدوء والإطمئنان.
قد تطول أو تقصر إجازة ” الخماسيّة”، لكن التأشيرة التي تحملها عابرة لكل الفواصل والحواجز، وقادرة أن ترفع البطاقة الحمراء في وجه مرتكبي “الفولات” في الملعب البلدي، عندما تصفر صفّارة الحكم الدولي…
جورج علم