فجأة انتقل التركيز العالمي على موسكو التي تعرضت لهجوم إرهابي كبير ومنظّم، رغم أنّ الغموض ما يزال يلف العديد من جوانبه. وهكذا كما فرض هجوم «طوفان الأقصى» في السابع من تشرين الأول الماضي انتقال التركيز الإعلامي من أوكرانيا الى غزة، فإنّ «هجوم موسكو» نقل عدسات التصوير من غزة الى روسيا.
فمِن دون أدنى شك سيأخذ «هجوم موسكو» والتداعيات التي ستتأتّى عنه حيّزا أساسيا من التركيز الإعلامي العالمي. وللمرة الثانية في أقل من عام تشهد روسيا حدثا كبيرا مدويا، ولكن في الوقت نفسه يختزن الكثير من الغموض والأسئلة التي لا أجوبة واضحة لها.
المرة الأولى كانت مع «انقلاب» قائد قوات فاغنر بريغوجين الذي أذهل العالم بانقضاضه على الداخل الروسي والزحف باتجاه موسكو بسرعة لافتة ومن دون عوائق أو مقاومة جدية من الوحدات العسكرية الروسية. وجاءت نهاية «الانقلاب» أكثر غموضا، ولم يَمح مقتل بريغوجين المتوقع من الأسئلة الكثيرة حول حقيقة ما حصل وخلفياته الفعلية.
والحدث الثاني جاء مع ضرب الإرهاب لموسكو هذه المرة، وبعد أيام معدودة على انتخابات الرئاسة الروسية والتي منحت تفويضا شعبيا كبيرا لفلاديمير بوتين مع أعلى نسبة أصوات على الإطلاق ليستمر في ولاية خامسة. لكن الانتصار الإنتخابي الكبير لبوتين لم يحل دون ظهوره بحال من الارتباك، ما جعله ينتظر زهاء 19 ساعة قبل أن يعمد الى مخاطبة الشعب الروسي المذهول من هَول ما حصل.
ولا شك بأن هجوم موسكو يمثّل خرقا أمنيا كبيرا على مستوى الإستخبارات ما يفتح باب التكهنات باحتمال حصول إقالات على مستوى الأمن الفدرالي حيث تجاوز العديد من مسؤوليه حاجز السبعين عاماً. والهجوم سيشكل فرصة مناسبة لبوتين للتخلص من بعض الذين «يُشاغبون» عليه في مقابل تعيين آخرين من الجيل الذي يدين بالولاء الصافي لبوتين.
لكن ثمة ما هو أبعد وأكثر أهمية لتداعيات هجوم موسكو، والمقصود هنا الاتجاه الذي سيسلكه الرد التأديبي أو الإنتقامي لروسيا. ففيما تبنّى تنظيم داعش فرع خرسان (أفغانستان) مسؤوليته عن العملية الإرهابية، كان سَعي القيادة الروسية منذ البداية لتوجيه اتهامات لأوكرانيا بالضلوع بالعمل الإرهابي، وهنا الزاوية الغامضة.
ففي مطلع أيلول الماضي نفّذ تنظيم داعش فرع خرسان عملية إرهابية إنتحارية ضد السفارة الروسية في كابول ما أدى الى مقتل موظفين في السفارة. وهذه العملية شكلت التحرك الأبرز للتنظيم بعد إتمام الإنسحاب الأميركي من أفغانستان في آب 2021. والمقصود هنا بأنّ حال «العداء» بينه وبين روسيا لم يهدأ يوماً. أضِف الى ذلك أن أسلوب التفيذ الإرهابي هو أسلوب داعشي بامتياز باستثناء الخاتمة الغريبة عن قاموس التنظيم الإرهابي. ففي العادة يستمر إرهابيو داعش في إطلاق النار وعمليات القتل حتى استنفاد الذخائر، وعندها إمّا يفجّرون أنفسهم أو يقتلون. أي أنهم يضعون حتمية مقتلهم في نهاية المهمة. وما حصل في موسكو مختلف كلياً لناحية وضع خطة انسحاب مسبقة، وهذا غريب عن القواعد الداعشية.
كذلك فإن الرواية الأولية التي اعترف بها أحد الذين اعتقلوا كانت غير مقنعة بتاتاً. ذلك أنه من الواضح أن المجموعة كانت متفاهمة ومنسجمة وتعمل بتنسيق كامل، ما يوحي أنها خضعت لتدريبات مشتركة لفترة لا بأس بها.
وفي الوقت نفسه فإن المُسارعة الروسية لتوجيه اتهامات الى كييف توحي بوجود تصميم لاستغلال الظرف والذهاب لرفع مستوى السلاح المستخدم في أوكرانيا والعمل على حسم الحرب بأسرع وقت ممكن وفرض وقائع ميدانية نهائية وثابتة تَطال القارة الأوروبية. فبشاعة العملية الإرهابية ترفع من مستوى النقمة والشعور بالقلق على الوجود وتدفع باتجاه رفع مستوى التعبئة الداخلية، وعلى أساس أن الخطر لم يعد عند الحدود فقط بل في الداخل أيضا.
وعلى المستوى الخارجي لا بد من الإشارة الى نجاح روسيا في تعزيز نفوذها في غرب أفريقيا وتحديداً في النيجر الغَني باليورانيوم على حساب نفوذ واشنطن وحلفائها. وخطوة النيجر كانت الى جانب مالي وبوركينا فاسو والتي تقضي باستبدال التعاون العسكري من الولايات المتحدة الأميركية الى روسيا.
وما لفت استطلاع الرأي الذي أجرته مؤسسة «يوجوف» الشهر الماضي في الولايات المتحدة حول موضوع غريب ويتعلق باحتمالات وقوع حرب عالمية ثالثة خلال السنوات الخمس الى العشر المقبلة. وجاءت النتيجة أن 61% من الأميركيين يميلون الى هذا الإحتمال، وأن 53% منهم يرجّحون الانتصار على روسيا في هذه الحرب. وهذا يعني أن الشارع الأميركي بات يميل الى «العسكرة»، وتشجيعه لتعزيز حلف الناتو كدرع عسكري مواجه للتمدد الروسي، ولهذا معناه الكبير.
وروسيا موجودة بقوة في الشرق الأوسط إن بشكل مباشر في سوريا أو بشكل غير مباشر في العديد من الساحات، ومنها الساحة الفلسطينية.
وخلال الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية الأميركي انطوني بلينكن ظهرت للعلن للمرة الأولى ربما بعض العناوين المتعلقة باليوم التالي. منها ما يطال الساحة الفلسطينية ومستقبلها وهوية الرعاة الجدد لها، ومنها ما يتعلق باستكمال آخر حلقات التطبيع مع اسرائيل من خلال السعودية. وهذا الملف كبير ومتشعّب ويطال الضمانات الأمنية والعسكرية والتي تعني الكثير. وأيضا إعادة صياغة المعادلة الإقليمية بشكل كامل، والذي من المفترض أن تكون خطوطها العريضة جعلت التوقيت مناسباً لفتح أبواب الإمارات أمام دور سياسي جديد لـ«حزب الله» بموازاة إشارات سعودية لاحتضان النظام السوري.
لكن قبل ذلك لا بد من مراقبة تطور الحضور الداخلي لرئيس الحكومة الإسرائيلية. فهو نجح حتى الآن في احتواء الخسائر الكبيرة التي تعرض لها إثر عملية السابع من تشرين الأول. ونتنياهو الذي نسج تفاهمات عميقة مع بوتين كان قد عَمل على امتصاص غضب الشارع عليه من خلال خطوات عدة، مثل تشكيل حكومة طوارىء وإشراك أخصامه السياسيين فيها. وفي الوقت نفسه عمل على التقرّب كثيرا من الإدارة الأميركية ولكن من دون التخلي عن اليمين المتطرف. ومناسبة هذا الكلام أنّ استطلاعات الرأي الأخيرة لَحظت تقدماً ولو غير حاسم لنتنياهو، في مقابل تراجعٍ مماثل لغريمه السياسي بيني غانتس. أما اللافت أكثر فهو ارتفاع حصة بن غفير. وهذا ما سيشجع نتنياهو على الانتقال من الدفاع الإحتوائي الى الهجوم السياسي مع استهلاك المزيد من الوقت في الاستمرار في وتيرة الحرب. وهذا له تداعياته المباشرة على الساحة اللبنانية.
ولا شك بأنّ وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالنت حمل معه الى واشنطن الملف اللبناني كملفٍ رئيسي لمباحثاته، وهو المعروف عنه علاقاته الجيدة بكبار المسؤولين الأميركيين. بالتأكيد سيناقش التصور الكبير المطروح لليوم التالي على مستوى الساحة الفلسطينية وعلى مستوى المعادلة الإقليمية الجديدة، لكنه سيبحث أيضا موضوع الواقع العسكري مع الجنوب اللبناني وهو المعروف عنه موقفه بعد عملية طوفان الأقصى والداعي الى فتح الحرب فوراً على «حزب الله».
وموقف غالنت هنا يتقاطع مع نتنياهو، كما أنه ليس بعيدا عن موقف واشنطن ولو أنها لا تريد الحرب المفتوحة بل عمليات نوعية تساعد على فك الاشتباك الإيراني الاسرائيلي عبر جنوب لبنان. وبخلاف الوضع في غزة فإنّ الكلمة الأقوى في الجبهة اللبنانية هي لواشنطن وليس لإسرائيل، خصوصاً أن غالنت يحمل معه لائحة طويلة من الطلبات العسكرية وحرصه على استمرار الجسر الجوي المفتوح.
وهنا يصح السؤال المطروح ما إذا كان الهجوم الإرهابي على موسكو، والذي سيخطف بعض جوانب الأضواء العالمية، سيدفع الى تسهيل الذهاب الى تسويات «اليوم التالي» حيث لروسيا حضورها الوازِن خصوصا في سوريا، أم أنها ستشكل عقبة إضافية ستزيد من تعقيدات المشهد في الشرق الأوسط؟
جوني منيّر – الجمهورية