طارق الترشيشي –
هل تستعد إيطاليا للعب دور في لبنان والاقليم من شأنه ان يملأ الفراغ الذي سينشأ من الانسحاب الاميركي من المنطقة المنتظر بعد الانتخابات الاميركية المقرّرة في تشرين الثاني المقبل، وكذلك بعد انتهاء حرب غزة وتوابعها وتبعاتها، بحيث تخلف الدور الفرنسي الذي فشل او تمّ إفشاله في لبنان على الاقل بكل المقاييس والمعايير الداخلية والخارجية؟
هذا السؤال طرحه مطلعون على السياستين الاميركية والغربية في المنطقة عموماً، مع وصول رئيسة الحكومة الايطالية جورجيا ميلوني الى لبنان مساء أمس، في زيارة تتجاوز الطابع البروتوكولي الى ما هو أعمق لاتصالها بالأحداث الكبرى والخطيرة التي تشهدها المنطقة والعالم.
ويأتي هذا التحرك الايطالي في وقت لا يبدو انّ العلاقة الاميركية ـ الفرنسية سوية منذ اسابيع او ثلاثة اشهر على الاقل، وما يعكس عدم سويتها هو طريقة التعاطي الاميركي تجاه باريس سواءً في اطار المجموعة الخماسية العربية ـ الدولية او على مستوى التعاطي بين واشنطن وباريس ثنائياً وإزاء القضايا الدولية، ولا سيما منها الشرق اوسطية، فعندما شدّدت السفيرة الاميركية في لبنان ليزا جونسون في اكثر من اجتماع مع نظرائها في المجموعة الخماسية على عدم تفرّد اي طرف منها في اي تحرّك او موقف انما كانت تقصد بالدرجة الاولى (حسب ما رشح من الاجتماعات) الطرف الفرنسي ممثلاً بالسفير هيرفيه ماغرو والموفد الرئاسي ـ الخماسي الفرنسي جان إيف لودريان.
وكذلك كان من المؤشرات الى تدهور العلاقة الفرنسية ـ الاميركية انّ الولايات المتحدة الاميركية تدخّلت لدى باريس وحالت دون انعقاد لقاء او مؤتمر لدعم الجيش اللبناني كان مقرّراً في 28 و29 شباط الماضي في العاصمة الفرنسية، وكان هذا اللقاء سيتمّ في حضور امير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني الذي زار باريس يومها وعقد لقاء قمة مع الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، على ان ينضمّ اليه لاحقاً رئيس اركان الجيوش الفرنسية ونظيراه اللبناني والقطري، ولكن هذا اللقاء لم يحصل بسبب خلافات اميركية ـ فرنسية حول اولويات خطة لدعم الجيش اللبناني. واذا استعيض عن هذا اللقاء بالمؤتمر الثالث الذي كان مقرّراً انعقاده في روما لدعم الجيش، فإنّ هذا المؤتمر الذي كان متوقعاً في منتصف آذار الجاري لم ينعقد ايضاً، وربما بسبب الخلاف الاميركي ـ الفرنسي.
وفيما لم يزر لودريان بيروت بعد حسبما هو متوقع، في ظل الحديث عن تفاقم الخلاف الاميركي ـ الفرنسي حول لبنان والمنطقة وأشياء اخرى، إذ برئيسة الحكومة الايطالية تزوره ويفرش لها السجاد الاحمر ويكون رئيس الحكومة نجيب ميقاتي في استقبالها، وهي الآتية من محادثات مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي تناولت ملف الهجرة عبر المتوسط، وجاءت غداة حصول مصر على 8 مليارات من الدولارات من الاتحاد الاوروبي، وهي حصلت او ستحصل على مبلغ مماثل او اكثر من المؤسسات المالية الدولية (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وسواهما) فضلاً عمّا تناله من صفقة مدينة رأس الحكمة الاماراتية على شاطئ المتوسط قد تفوق قيمتها الـ 20 مليار دولار في ظل الحديث عن استعداد مصري لمواجهة احتمال إقدام اسرائيل على تهجيرالفلسطينيين من قطاع غزة الى سيناء المصرية، وهو امر إن حصل فإنّه لن يكون بلا ثمن عند الجانب المصري.
ولم تغب قضية النازحين السوريين والهجرة الشرعية وغير الشرعية الى اوروبا عبر المتوسط عن محادثات ميلوني مع المسؤولين اللبنانيين، فهذه الهجرة تؤرق الاوروبيين وتقض مضاجعهم وتحديداً الدول الواقعة على شاطئ المتوسط، ولا سيما منها فرنسا وايطاليا اللتان تشكّلان المعبر الرئيسي للمهاجرين الى العمق الاوروبي الغربي، وقد كانت هذه الهجرة مدار بحث مفصّل بين ميلوني والرئيس المصري، حيث انّ الاوروبيين يخشون من موجة هجرة فلسطينية الى بلادهم في حال نفّذت اسرائيل تهديداتها واجتاحت رفح وأطبقت سيطرتها على قطاع غزة وهجّرت ما تبقّى من سكانه الى مصر او عبر البحرالمتوسط، وربما عبر الميناء العائم الذي تعمل الولايات المتحدة على اقامته على شاطئ غزة تحت «العنوان الانساني».
ويتوقف سياسيون مطلعون عند زيارة ميلوني للبنان ليشيروا الى انّها تأتي في ظل التراجع المضطرد للنفوذ الاوروبي عموماً في لبنان، لمصلحة النفوذين الالماني والايطالي، علماً انّ الاخير متقدّم على الاول منذ زمن طويل نظراً للمقبولية التي يحظى بها لدى اللبنانيين، خصوصاً منذ ايام مشاركة ايطاليا في القوة المتعددة الجنسية التي انتشرت في بيروت بعد الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982، حيث تميز الايطاليون بالخدمات الطبية والاجتماعية واللوجستية المختلفة التي قدّموها للبنانيين في تلك الايام الكالحة.
واللافت ايضاً انّ زيارة ميلوني للبنان توحي انّ روما تتحرك لوراثة الدور الفرنسي الذي يرى البعض انّه «يتراجع» في لبنان، وربما يكون ذلك تمهيداً لملء الفراغ الغربي الذي سيحصل في لبنان بعد ان تكون الولايات المتحدة الاميركية قد انجزت انسحابها الكامل في المنطقة، والذي استأخرته بسبب حرب غزة، ولكنها ستستكمله بعد انتهاء هذه الحرب، لأنّ القرار المتخذ في شأنه «ثابت ونهائي» لاعتبارات كثيرة لدى الولايات المتحدة الاميركية.
وتأسيساً على هذه المعطيات، فإنّ زيارة ميلوني للبنان ليست بروتوكولية، بحيث تتناول البحث في العلاقات الثنائية ثم تنتهي بتفقد ميلوني القوة الايطالية العاملة في اطار قوة حفظ السلام الدولية في الجنوب (اليونيفيل)، وانما غايتها التأسيس لدور ايطالي فاعل في لبنان، لأنّ الفرنسيين «ربما يقفون على ابواب الانسحاب من لبنان» بسبب خلافهم المتصاعد مع الاميركيين، والدليل الى ذلك شركة «ايني» الايطالية التي تستعد لوراثة شريكتها في «كونسورتيوم» الغاز والنفط شركة «توتال» الفرنسية، خصوصاً بعد ما حصل في موضوع التنقيب عن الغاز في البلوك الرقم 9 اللبناني، حيث انّ «الطاسة ضايعة» ولم يصدّق احد روايات «توتال» وغيرها، عن عدم وجود غاز في هذا البلوك الذي يقع في حقل واحد مع «كاريش» الذي تستخرج اسرائيل الغاز منه، وها هي تضخّه الى اوروبا. وفي هذه الحال سيقتصر الكونسورتيوم على «ايني» وشريكتها «قطر للطاقة» إن لم يتمّ ادخال شركة بديلة لـ»توتال» على رغم من العلاقة الجيدة التي تربط بين باريس والدوحة، وكلاهما تنتميان الى المجموعة الخماسية العربية ـ الدولية الخاصة بلبنان.
ويقول مطلعون على الموقف الاميركي انّ الولايات المتحدة الاميركية ستنسحب من المنطقة بعد بضعة اشهر، بحيث تكون الحروب فيها قد توقفت او انحسرت، و»انّ هذا ما يفسّر تمهّل ايران في اتخاذ اي خيارات نهائية على مستوى المنطقة وحجم نفوذها فيها، خصوصاً انّ الانسحاب الاميركي سيُحدث فراغاً غربياً في المنطقة، ما يطرح السؤال عن الجهة البديلة التي يمكن ان تملأه. ولذلك لا يُستبعد ان تملأه ايطاليا والمانيا.
ويقول هؤلاء المطلعون «انّ زيارة ميلوني للبنان مهمّة جداً خصوصاً انّ ايطاليا تشتهر بصناعة الاسلحة المدولبة، اي المصفحات والمدرعات وناقلات الجند التي تسير بعجلات وليس بالسلاسل، كما انّها تشتهر بجودة طائرات الهيليكوبتر التي تصنعها شركة «ليوناردو».