تُعدّ أكلاف المعاينة الطبية في العيادات الخاصة والمستشفيات أحد أهم معوقات الحصول على الرعاية الصحية. فالمؤسسات الصحية والأطباء رفعوا أسعارهم لتصبح 100% أو بنسبة لا تقلّ عن 80% مما كانت عليه في عام 2019، بينما المداخيل لم تستعد من قوّتها الشرائية أكثر من 30%.
واللافت أن لا معايير واضحة تنطبق على آليات التسعير باستثناء قواعد العرض والطلب التجارية التي تجعل من الطبابة مهنة تجارية يروّج بأنها «رسالة إنسانية».تنصّ المادة التاسعة من قانون الآداب الطبية على تحديد أتعاب الأطباء على النحو الآتي: «عند تحديد أتعاب الطبيب يؤخذ في الاعتبار حالة المريض المادية والظروف الخاصة بكل حالة، مع التشديد على أن رسالة الطبيب تفرض عليه التعامل إنسانياً مع المريض». وتحت سقف هذه القاعدة، تشهد أسعار المعاينات الطبية ارتفاعاً مطّرداً في الأسعار مقارنة مع ما كانت عليه قبل الأزمة.
مثلاً، تبدأ كلفة المعاينة الطبية لدى طبيب اختصاص قلب وشرايين في العيادات التخصصية التابعة لمستشفى الجامعة الأميركية في بيروت من 75 دولاراً، وفي عيادات مستشفى كليمنصو تراوح بين 70 دولاراً و100 دولار، و80 دولاراً في عيادات مستشفى أوتيل ديو، و60 دولاراً في عيادات مركز سان جوزيف الطبي في الأشرفية. وهذه الأسعار هي نفسها في العيادات الخاصة مع تفاوتات متعلقة بالمناطق والشهرة. عملياً، توازي كلفة المعاينة الطبية لدى طبيب اختصاص، نحو ثلث راتب موظف في القطاع العام،
وقد تصل إلى 25% من الدخل الأدنى في القطاع الخاص (الحد الأدنى للأجور مضافاً إليه بدلات النقل).
قبل الأزمة، كان الحدّ الأدنى للتعرفة 50 دولاراً، أما اليوم فيتجاوز ضعفي ما حدّده مجلس نقابة الأطباء.
ففي آذار 2023 أصدر المجلس لائحة بأسعار المعاينات على النحو الآتي: بالليرة اللبنانية ما يوازي 20 دولاراً أميركياً للطب العام، وما يوازي 25 دولاراً لطب الاختصاص، أما بدل المعاينة النهارية داخل المنزل فقد حُدّد بـ50 دولاراً كحدّ أدنى، و100 دولار للمعاينة الليلية بمعزل عن الاختصاص. على أنه يمكن للطبيب أن يتجاوز التعرفة المحدّدة وفق ما تقتضيه تقديراته.
إذاً، هل تُطبّق هذه التعرفات؟ الواقع، أن تعرفة النقابة استرشادية وليست ملزمة للطبيب. تبرير مسؤولي النقابة لتحديد الحدّ الأدنى من التعرفة، يشير إلى «منع المضاربات أو المزاحمات غير المشروعة كون عمل الطبيب يندرج في إطار المهن الحرّة ويحقّ له تحديد قيمة أتعابه في حال لم يكن ملتزماً بعقد مع جهة ضامنة رسمية. فالمادة 10 من قانون الآداب الطبية تنص على الآتي: «لا يجوز للطبيب خفض بدل أتعابه بقصد المزاحمة، إلى ما دون الحد الأدنى للتعرفة المحددة من قبل نقابة الأطباء بالاتفاق مع وزارة الصحة العامة… وللطبيب أن يقدّم معونته مجاناً إذا رأى ذلك مناسباً».
لكن هل هناك معايير تُبنى على أساسها هذه التعرفات بحدّها الأدنى، وبحدودها المفتوحة؟ يقول أحد الأطباء، إن العامل الجغرافي يلعب دوراً في تحديد التعرفات، إذ إن أكلاف العيادة في المناطق الشعبية، لجهة تأمين الكهرباء والخدمات وسواها، هي أدنى من تلك المتواجدة في مناطق تُصنّف باهظة وفيها خدمات مصعد وموقف سيارة وتجهيزات طبية إضافية وسكرتية متخصّصة… ويشير إلى أن وجود مستوصفات منافسة في الأحياء الشعبية يحتّم على الطبيب خفض كلفة المعاينة. فضلاً عن أن طبيعة المرض تلعب دوراً في تحديد التعرفة «ففي الأحياء الشعبية تغلب الأمراض الناتجة من عدوى بكتيرية بسبب الكثافة السكانية، ولا سيما في ظل تزايد عدد السكان بسبب النازحين السوريين، أو بسبب قلّة النظافة ونوع الغذاء، وهذه الأمراض عادة لا تحتاج إلى تشخيص مكلف مثل التسمّم الغذائي».
وعلى هذا المنوال، يتنقل بعض الأطباء بين عيادتين؛ الأولى في الضاحية الجنوبية، والثانية في منطقة الحدث. لكل من هاتين العيادتين تعرفة خاصة حُددت على أساس طبيعة المنطقة والمستوى المادي للزبائن المحتملين وحجم الاكتظاظ. عيادات الضاحية تعجّ بالمرضى بشكل ينعكس سلباً على الوقت الذي يستغرقه الطبيب في المعاينة، بعكس العيادة الأخرى التي يقصدها المرضى هرباً من الانتظار أو تماشياً مع «البريستيج».
في الواقع، تبدو أسواق الطبابة على حالها لجهة وجود مسارين: مسار الطبابة للطبقة الميسورة، ومسار للفقراء. وفق خبير في هذا المجال (رفض ذكر اسمه نظراً إلى حساسية الموضوع)، فإن وجود هذين المسارين ليس أمراً حديثاً نتج من الأزمة، بل هو قائم تاريخياً في لبنان وطرأت عليه بعض التعديلات بسبب الأزمة. ففي مقابل ظاهرة يمكن أن يُطلق عليها «الطبيب الفقير» أو «طبيب الفقراء»، هناك أطباء للطبقة الأعلى في شريحة الدخل، وللطبقة الوسطى.
يستحوذ الأطباء المرتبطون بشرائح الدخل الأعلى على أكثر من 60% من القيمة التي تُنفق من القطاعات العامة والخاصة (بما فيها من جيوب الأفراد)، بينما يحصل «أطباء الفقراء» على باقي «فتات» الإنفاق العام والخاص على المعاينات الطبية، وما حصل بعد الأزمة، هو تغيّر في حجم شريحة الطبقتين مع تركّز أعلى في كل منها. صحيح أن المؤسسات الطبية التي تستقطب فئات الدخل الأعلى رفعت من مداخيل العاملين لديها، إلا أنْ لا مبرّر واضحاً لرفع التعرفات، لا بل بات واضحاً أنْ لا معايير فعلية لتحديد هذه التعرفات سوى بالاستناد إلى دراسات الجدوى التجارية، والرغبة في الثراء الفاحش والسريع.
الضمان يردّ 12% من الكلفة فقط
يفترض أن يستردّ المضمونون 80% من كلفة المعاينات الطبية على أن تكون الـ20% الباقية على عاتقهم، إنما سعر الضمان ما زال بعيداً جداً عن الواقع، إذ أصدر صندوق الضمان في أيلول 2023 قراراً يحدّد تعرفة معاينات الأطباء خارج المستشفى، بقيمة مليون ليرة للطبيب الاختصاصي، وبقيمة 650 ألف ليرة للطبيب العام. لكن ربطاً بالتعرفات الدنيا في سوق الطبابة، فإن الضمان لا يعوّض أكثر من 12% من كلفة المعاينات.
38 ضعفاً
هي الزيادة في كلفة الصحة بحسب مؤشر إدارة الإحصاء المركزي بين شباط 2021 وشباط 2024. والمقارنة لم تُبنَ على أساس 2019، لأن أسعار الطبابة تأخّرت في الارتفاع بسبب الدعم. كما أن المؤشر يجمع بين كلفة الطبابة خارج المستشفى وكلفتها داخل المستشفى وبالتالي لا يمكن تحديد حصّة كلفة المعاينات من الكلفة الإجمالية، لكن من الواضح أن أجور القطاع العام تضاعفت 12 مرّة بينما لم يسترد القطاع الخاص أكثر من ثلث قوّته الشرائية السابقة وفق تقديرات الخبراء.
أسماء إسماعيل – الاخبار