الجمعة, نوفمبر 22
Banner

عن الحاج حسين الوزواز.. عاش شاهدًا ورحل برتبة شهيد – كتب د. محمد حسين بزي 

هو الموت، أصدق الكتب، ومنتهى الآجال، والأعمال في خواتيمها..

هو الموت، الحقيقة العظمى في مسيرة الروح إلى بارئها، والنهاية التي تكتب أصحابها بلا منازع..

إنّه فجر السبت 27/4/2024 الذي وقَّع عليه الحاج حسين الوزواز (1944-2024) “أبو علي” آخر أوراق عمره الحافل بالفلاح والعطاء والبصمة الخاصة..

لم يكن ابن جارة فلسطين بلدة ميس الجبل المقاوِمة الأبية الحاج حسين الوزواز رجلًا عاديًا كرجال زمنه، ولم يكن تفكيره تفكيرًا كلاسيكيًا كأبناء جيله، برغم أنه لم ينل من الشهادات الدراسية العليا نصيبه، لكن الحياة التي خَبِرها جيدًا مذ كان في العاشرة من عمره _يوم كان يعمل في صالون بيضون للحلاقة في محلة المعرض من بيروت_؛ كانت كفيلة بأن تجعله رجلًا متميزًا عن أقرانه في الحكمة والرحمة والمحبّة، كما في الصلابة والوفاء والثقة بالنفس حتى أصبح قدوة في تربية عائلة كريمة شريفة.. عائلة قدّمت أكبر أبنائها (علي) شهيدًا في الدفاع عن لبنان في حرب تموز 2006، فلم يزدد الأب إلّا صلابة، ولم تزدد العائلة إلّا فخرًا واحتسابًا.

“أبو علي” المتيّم بحبّ وطنه كان أطلق على ابنه الثاني اسم “لبنان”، وابنته الأولى اسم “أرزة”؛ كي يحفر عميقًا في وعي عائلته وبيئته، بل وفي وعينا جميعًا أنّ حبّ الوطن يجب أن يزيدنا شموخًا واعتزازًا في القول والعمل.

وكانت ضريبة التهجير القسري داخل الوطن مع اشتعال نار الحرب الأهلية المقيتة سنة 1975، من النبعة إلى بنت جبيل _وهو صهرها_ ثم إلى وداي أبو جميل حتى سنة 1979.

وكانت الهجرة الاضطرارية من الوطن إلى الكويت حاملًا معه “عليّه” و”لبنانه” و”أرزته” و “إبراهيمه” و “خُضُره” ووالدتهم المكافحة الحاجة “أم علي”، فكانت الهجرة الضريبة الثانية التي دفعها في غربته عن وطنه مع لعنة سياسييه.

وفي الكويت رُزِق بابنتيه حلا وفاطمة، بعد أن فتح صالون حلاقة للرجال، ومن دماثة خلقه وحُسن معشره وصدق معاملته فضلًا عن أناقته المشهودة كسب الحاج حسين محبّة الكويتيين قبل المقيمين على مدى عشرين سنة، حيث رجع إلى وطنه الأم سنة 1997 ليرزق بآخر عنقود العائلة عزيزته مريم.

لم تكن معرفتي بأبي علي معرفة سطحية رغم قلّة لقاءتنا، بل معرفة عميقة تعلّمت منها كيف يكون الرجل نبيلًا في حياته، ونبيلًا في علاقته مع الناس، ونبيلًا حتى في مرضه الذي استمر لعشر من السنوات الثقال.. فعندما التقيته أول مرة بتاريخ 11/11/2006 لأتشرف بتقديم ميدالية مهرجان بنت جبيل الشعري له عن ولده الشهيد علي، صعد إلى المنصّة كالرمح الممشوق عزّة وفخرًا، فلم أرَ نفسي إلّا وقد انحنيتُ له تأدبًا وتقديرًا، وأذكر أنّ العزيزة الدكتورة هبة رؤوف التي كانت شرّفتنا قادمة من مصر لتحتفل معنا في بنت جبيل قالت: “كيف لهذا الرجل المفجوع ببِكره_تقصد الشهيد علي_ أن يكون متماسكًا وصلبًا إلى هذه الدرجة؟”، فأجبتها “إنّها مدرسة عاشوراء”، وبعدها بفترة ليست قصيرة كتبت الدكتورة رؤوف مقالها المشهور في صحيفة الوسط البحرينية “عاشوراء بعيون سُنيّة”.

وأنا مذ ذلك الوقت قد وقعت محبّة أبي علي في قلبي؛ حتى كنتُ أسأل ابنه العزيز خضر مطمئنًا إلى صحته بشكل أسبوعي، ومؤخرًا بشكل يومي، ولم يكن ذلك احترامًا وحسب، بل محبته التي سكنتني منذ اللحظة الأولى لتشرّفي بمعرفته.

كان أبو علي رجلًا عصاميًا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى ومبنى، فقد ربّى عائلة يُفاخَر بها بين الناس، ولم أسمع عنه ولا منه كلمة سوء عن عدو أو صديق، وكان يحفظ لسانه حتى عن الأغيار، ولا يقبل إلّا بكريم القول وجميل الفعل مع الصغير والكبير على حدّ سواء.

وحسبه في الورى تلك المحبّة التي كانت طافحة على وجوه المعزّين يوم أسبوعه في قاعة المجتبى التي غصّت بالمئات وربما أكثر.

عزاؤنا أنّ أمثال أبي علي يموتون جسدًا، ولكنّهم يبقون ذكرى طيبة وسيرة حسنة تمشي بين الناس مهما طال الزمن.

في أمان الله ورضوانه أبا علي، يا صاحب القلب الكبير والضمير المتصل بالشرف والعزّة، سنفتقدك في المواقف التي تحتاج إلى الرجال الرجال شاهدًا وشهيدًا في زمنٍ اشتاقت المروءة فيه إلى أهلها.

*شاعر وروائي لبناني، مدير عام دار الأمير في بيروت

 

 

Leave A Reply