فتحت زيارة وزير الخارجية الايراني بالإنابة محمد باقر كني الى بيروت اخيرا الباب على مصراعيه أمام فيض من التكهنات والتأويلات، اذ انها كانت زيارة استثنائية بما سبقها وما واكبها واستطرادا بما اعقبها مباشرة من تطورات واحداث على نحو جعلها تتعدى أبعاد الزيارات الروتينية للمسؤولين الايرانيين الى بيروت.
فليس خافيا ان هذه الزيارة أتت بعد أقل من 36 ساعة على المقترح الذي اطلقه الرئيس الاميركي جو بايدن لتبريد الوضع الملتهب في غزة، لذا صار هذا المقترح حدثا مفصليا لا يمكن اغفاله واهماله من اي جهة معنية بما فيها الجهة الاسرائيلية. كما انها تواكبت مع احتدام غير مسبوق للمواجهات على جانبي الحدود الجنوبية بين لبنان واسرائيل.
وبناء على هذه المعطيات فان ثمة من الراصدين مَن سارع الى اعتبار ان كني بادر الى الرد على التهديدات الإسرائيلية بشكل مقتضب عندما قال في احد تصريحاته في بيروت إنه يحذر اسرائيل من ان تتورط في اي حرب واسعة مع “حزب الله”، فعدَّ ذلك بمثابة رسالة مضادة تأتي من طهران في اللحظة المناسبة لتؤكد لمن يعنيهم الامر انها لن تترك “الحزب” وحيدا في مواجهة من النوع الذي تهدد به تل ابيب.
وعلى رغم كل هذا التصعيد الميداني المقرون بتصعيد كلامي، فان “حزب الله” لا تبدو عليه امارات الذعر والخشية من ان تنفذ اسرائيل تهديداتها المتواصلة تلك، بل هو يقيم على اطمئنان داخلي مبعثه ان زمن إقدام تل ابيب على هذا النوع من المغامرة “قد ولّى الى غير رجعة”. وتقول مصادر على صلة بدوائر القرار في “الحزب” ان الاعلام العبري الذي لا ينطق عادة عن الهوى كان قد بثّ قبل فترة قصيرة تقارير معززة بشهادة خبراء عسكريين، فحواها ان “حزب الله” لم يستخدم الا القليل من طاقته العسكرية في المواجهات الدائرة بضراوة على الحدود، وانه استطرادا قد اظهر، وخصوصا خلال الاشهر الثلاثة الماضية، مفاجآت ميدانية تشي بان امكاناته العسكرية المذخورة عنده هي اكبرمن حسابات المؤسسة الامنية الاسرائيلية، وهذا ما تجلى اكثر ما يكون اخيرا عندما ادخل سلاح المسيّرات كعنصر جديد في المعركة المفتوحة.
وفي الموازاة، تضيف المصادر اياها، بثت المخابرات الاميركية اخيرا وعشية صدور مقترح بايدن وعلى مدى ثلاثة ايام تقارير تفيد بان حركة “حماس” ما زالت تحتفظ بثلاثة ارباع قوتها القتالية. وكلا الامرين يصب في خانة واحدة هي اقناع الرأي العام الاسرائيلي بـ”عبثية” المغامرة العسكرية التي يقودها نتنياهو من جهة، واقناعه بضرورة الدخول الجدي بمسار تفاوضي لوقف النار في غزة وايقاف اي رهان على سحق “حماس” في غزة وليّ ذراع “حزب الله” على الحدود اللبنانية، من جهة أخرى.
ولا تخفي المصادر اياها ان القيادة الايرانية وقيادة “حزب الله” ليستا الآن في وارد اطلاق اي مواقف نهائية حيال مقترح بايدن، بل انهما ستقفان خلف اي خيار تتخذه حركة “حماس” وتتبنيان اي موقف تقرره، وفي هذا تكرار للخيار الذي لجأتا اليه غداة عملية “طوفان الاقصى”، اذ اعلنتا انهما لم تكونا على علم مسبق بها، ومع ذلك فان طهران سارعت الى تأييدها، فيما ذهب “حزب الله” الى مزارع شبعا ليطلق من هناك اول صاروخ على احد المواقع الاسرائيلية ايذانا بفتح “جبهة المساندة والدعم والمشاغلة” لغزة.
وفي كل الاحوال، تكشف تلك المصادر في حلقاتها الضيقة عن قراءة استنتاجية اولية لمرحلة ما بعد المقترح الاميركي فحواها الآتي:
– ان ما وضعته طهران وقيادة “حزب الله” نصب اعينهما طوال الفترة الماضية قائم على مبدأ الاستعداد لتحمّل كل اعباء المشاركة في المواجهة، لكن المهم ان يبقى”حزب الله” بما يمثل وحركة “حماس” بما تعني حاضرين في الميدان، وهذا ما ثبت بعد اشهر المواجهة الثمانية.
– ان القيادتين تعتبران ان الهدف الاقصى الذي اعلنته اسرائيل عندما فتحت المواجهات على اوسع الابواب ردا على عملية “طوفان الاقصى” لم يتحقق، بل ان المعركة التي تلت اوجدت وقائع جديدة على نحو صارت اسرائيل معها مردوعة عسكريا ومحشورة سياسيا امام العالم.
– تقر المصادر عينها بان ما جرى على الحدود الجنوبية هو مجرد “بروفة” اثبت فيها الحزب للاسرائيلي والاميركي انه ما انفك ممسكا بزمام التحكم والمبادرة.
وفي المطلق، لا تخفي تلك المصادر انه على رغم الملاحظات والتحفظات التي يمكن لـ”حماس” وسواها ان تضعها على مقترح بايدن، فان المحور كله سيكون مرتاحا اذا ما قبلت تل ابيب في نهاية المطاف بالمقترح.
ابراهيم بيرم -النهار