لا يمكن الجزم بموعد محدّد لإنجاز الاستحقاق الرئاسي، لا قبل الانتخابات الاميركية ولا بعدها، ولا الآن في ظل الحرب الاسرائيلية على غزة وعلى لبنان، فالربط بين هذا الاستحقاق وبين كل هذه الأحداث والتطورات ما كان منطقياً في ما مضى ولا الآن، ولا في المستقبل سيكون كذلك، لأنّ «أصل الداء» لبناني داخلي قبل أي داء آخر.
يقول قطب سياسي انّ «المعضلة المارونية» هي التي تمنع انجاز الاستحقاق الرئاسي بالدرجة الاولى، وهي متأتية من موقفي «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية» الرافضين ترشيح رئيس تيار «المرده» سليمان فرنجيه، ولم يقدّما بديلاً مقبولاً، بل الرافضين الحوار في شأن هذا الاستحقاق منذ ان طرحه رئيس مجلس النواب نبيه بري بعد جلسات الانتخاب الـ 13 التي لم ينته اي منها بانتخاب رئيس للجمهورية.
ويرى هذا القطب، انّ هذين الطرفين السياسيين المسيحيين اللذين لم يتفقا على مرشح رئاسي يقبله الآخرون، يسعى كل منهما على طريقته لتحقيق شعبوية وعصبية مسيحية كاسحة، كتلك التي كان يتمتع بها الرئيس الراحل بشير الجميل، ولا ضير عند اي منهما إن تأخّر انتخاب رئيس جمهورية الى أمد طويل، الى ان يتمكن كل منهما من تحقيق هذه «الشعبية الكاسحة».
ولكن المفارقة التي يسجّلها البعض في هذا المجال في الاوضاع الراهنة، هي انّ هذين الطرفين المسيحيين يعتمدان للوصول الى الشعبية والنفوذ التصويب على طرفي «الثنائي الشيعي» مجتمعين او منفردين. فسابقاً كان رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل، يحمل على رئيس مجلس النواب نبيه بري إلى حدود اتهامه بـ«البلطجة»، ويؤكّد في المقابل تمسّكه بالتحالف مع «حزب الله» وتفاهم «مار مخايل» المعقود بينهما منذ 6 شباط 2006. وفي المقابل كانت «القوات اللبنانية» تغازل بري سياسياً، وتهاجم «حزب الله» وتعتبره «دويلة في قلب الدولة»، فضلاً عن اطلاق توصيفات اخرى عليه تتعدّى احياناً التوصيف السياسي الى الديني، ولا مجال لتعدادها في هذه العجالة.
اما اليوم فقد انقلبت الآية، حيث إنّ «القوات اللبنانية» وبشخص رئيسها الدكتور سمير جعجع تحديداً تهاجم بري وترفض ترؤسه طاولة «الحوار» او «التشاور» (وغيره من التسميات) في شأن انتخاب رئيس الجمهورية الجديد، فيما «التيار الوطني الحر» بشخص رئيسه يجاري بري في الموقف، فيؤيّد ضرورة «الحوار» او «التشاور» كمقدمة لإنجاز الاستحقاق الرئاسي، ولكنه لا يجاري «الثنائي الشيعي» وحلفاءه في دعمهم ترشيح فرنجيه، بل يرفض هذا الترشيح الى حدود انّه يعمل على إسقاطه، وهو عندما تقاطع يوماً مع «القوات اللبنانية» على دعم ترشيح الوزير السابق جهاد ازعور في آخر جلسة انتخابية عقدها المجلس النيابي، فإنما تقاطع معهما على «هدف مشترك» وهو إسقاط ترشيح فرنجيه، الامر الذي لم يحصل، إذ تبين ان من سقط كان ترشيح ازعور، إذ ما عاد اي من داعميه او المتقاطعين على دعم ترشيحه يتكلم عنه الّا لماماً، على رغم من أنّ الرجل نال 59 صوتاً في تلك الجلسة مقابل 51 صوتاً نالها فرنجيه الذي ما زال مستمراً في ترشيحه ويدعمه حلفاؤه ويؤكّد مراراً وتكراراً انّه ليس في وارد الانسحاب من السباق الرئاسي.
على انّ القطب السياسي نفسه يؤكّد أن ليس هناك اي مؤشر حتى الآن إلى تغيّر ما سيحصل في موقف أي من «القوات» او «التيار الوطني الحر»، وقد زاد في الطين بلّة المواقف التي عبّرا وما زالا يعبّران عنها، وآخرها ما أبلغاه الى وفد «الحزب التقدمي الاشتراكي»، الذي يبادر هذه الايام الى زيارة القيادات السياسية والكتل النيابية ساعياً الى تقريب وجهات النظر حول صيغة معينة للتشاور والحوار في سبيل إنجاز الاستحقاق الرئاسي. فـ«القوات» رفضت ترؤس بري «التشاور» او «الحوار» المطروح كمعبر إلزامي الى انتخاب رئيس الجمهورية الجديد، فيما التيار ايّد هذا «التشاور» للاتفاق على رئيس، واذا تعذّر ذلك الذهاب الى جلسة انتخابية يسودها تنافس ديموقراطي بين مرشحين اثنين او اكثر إذا لزم الامر.
الّا انّ «القوات» و«التيار» لم يغيرا في موقفهما المعارض ترشيح فرنجيه، فـ«القوات» تعتبره مرشح «محور الممانعة»، فيما التيار لا يؤيده وما زال على هذا الموقف منذ اللقاء الشهير بينه وبين الامين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله عام 2022 قبيل انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون والذي أنهاه السيد نصرالله بعبارة «للبحث صلة»، محاولاً استيعاب رفض باسيل السير في ترشيح فرنجيه لاستحالة السير في ترشيح رئيس «التيار الوطني الحر» في هذه المرحلة غير المشجعة عليه لاعتبارات كثيرة يدركها باسيل قبل غيره. لكن مواقف باسيل في إطلالته التلفزيونية الاخيرة والتي صعّد فيها موقفه المعارض لفرنجيه جاءت لتؤكّد انّ الرجل وحتى إشعار آخر ليس في وارد تغيير موقفه ايجاباً من رئيس تيار «المرده» الذي يتبين يوماً بعد يوم انّ فرص وصوله الى رئاسة الجمهورية تتزايد في ظل تزايد الرهانات على متغيّرات داخلية وخارجية ستفرض انتخابه في لحظة سياسية ما. وفي هذا السياق يعتقد بعض المعنيين انّ ما قاله سفير المملكة العربية السعودية وليد البخاري امام مجموعة من اهل الفكر التي التقاها قبل يومين، عن «تقدّم التشاور حثيثاً على طريق رئيس التسوية الكفيل بإعادة الثقة لطاقات اهل بلاد الارز الراسخة»، هو مؤشر الى انّ الجميع باتوا على اقتناع بأنّ الحل يكمن بانتخاب رئيس توافقي وليس من خارج الواقع السياسي الراهن، فـ«رئيس التسوية» الذي تحدث عنه بخاري يعني في رأي هؤلاء الرئيس التوافقي، لأنّ التسوية تكون نتاج توافق بين اطرافها.
وفي اي حال، فإنّ الايام والاسابيع المقبلة مرشحة لأن تشهد مزيداً من التطورات على جبهة الاستحقاق الرئاسي، من دون ان يعني ذلك انّها ستكون دراماتيكية، فهذا الاستحقاق وبعد بيان سفراء المجموعة الخماسية الاخير وزيارة الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان الاخيرة لبيروت (وهي كانت الاخيرة فعلاً ولن يعود بعدها الى لبنان مجدداً) ترك امره للأفرقاء اللبنانيين. ولا يراهنن احد على القمة الرئاسية الاميركية ـ الفرنسية السبت المقبل في باريس، لانّها قد لا تقدّم ولا تؤخّر في شيء، لأنّ كثيرين في الداخل والخارج باتوا يربطون مصير الاستحقاق اللبناني بما سيؤول اليه الوضع في غزة والجنوب اللبناني.
طارق ترشيشي – الجمهورية