عملت الصهيونية منذ ما يقارب ثلاثمائة عام وبشكل جدي لإقامة الدولة اليهودية في فلسطين، بينما كان العرب يغطون في سبات عميق، ويغرقون في شهواتهم وملذاتهم، لاهثين وراء أوهامهم وأحلامهم الوردية غافلين عما يحاك لهم في الخفاء.
لقد تقاطعت مصلحة بريطانيا في اقامة قاعدة عسكرية لها في الشرق الاوسط، ورغبتها في كبح جماح العرب، ومنعهم من إقامة دولتهم الواحدة المركزية وتفتيتها الى دويلات، مع مصلحة الصهيونية في اقامة دولة لليهود، وهو ما سمح بقيام ما يسمى بدولة إسرائيل.
هذه الدولة هي دولة عنصرية قائمة على مبدأ أن إسرائيل هي وطن قومي لليهود، ولا إمكانية للتعايش مع أية قومية أو أية ديانة اخرى، وهو ما أكده هرتزل ” متى أصبحنا أسياداً فإننا لن ندع في الوجود غير ديانتنا التي تنادي بالإله الذي يتعلق به مصيرنا، لإننا شعب الله المختار، وإن مصيرنا ليقرر مصير العالم ولذا يجب ان نزيل الاديان الاخرى …. “.
إن هذا المبدأ، لابل هذه الرغبة بجعل دولة إسرائيل دولة خالصة لليهود اصطدم بعقبات منعت تحقيق هذا الحلم، أولها بقاء عدد كبير من الشعب الفلسطيني في فلسطين المحتلة وإحياء شعائرهم الدينية سواء في المساجد وتحديداً المسجد الأقصى أو في الكنائس وتحديداً كنيسة القيامة، وتمسك هذا الشعب بأرضه بالرغم من الممارسات القمعية، ومصادرة البيوت، والتضييق عليهم اقتصادياً واجتماعياً وحياتياً، يضاف إلى ذلك تنامي هذه الأعداد من خلال الولادات التي حصلت منذ العام 1948 ما جعل الميزان الديموغرافي يميل لصالح الشعب الفلسطيني ما وضع إسرائيل في مشكلة كبيرة، مشكلة لم تجد لها حلاً إلا بالحرب، لذلك كانت تستغل أي عملية ضدها من المقاومة الفلسطينية لتمارس عملية التدمير والقتل لزرع الخوف في نفوس الفلسطينيين ودفعهم للمغادرة وأو إبادتهم عبر قتل السكان أطفالاً ونساءاً وشيوخاً، وهو فعلته في حرب غزة في 8 تموز 2014
وفشلت في تحقيقه، وتحاول الكرة منذ 7 تشرين الأول 2023 وحتى تاريخه.
أمام هذا الواقع لم يكن امام الكيان الصهيوني سوى أربع خيارات لحل هذه المشكلة:
1ــ اعلان الكيان الإسرائيلي دولة ديمقراطية تعطي الحق للفلسطينيين بالاقتراع وهذا الخيار ساقط بسبب العدد المتنامي للفلسطينيين وبالتالي سقوط الدولة اليهودية.
2ــ حل الدولتين الذي تطرحه الولايات المتحدة بتأييد من الدول الغربية ومعظم الدول العربية، وهو شرط المملكة العربية السعودية للتطبيع مع دولة إسرائيل، وهو أمر مرفوض من نتنياهو والفريق المتشدد في الكيان الصهيوني.
3ــ الفصل العنصري وهو حال دولة العدو الإسرائيلي، فهي دولة فصل عنصري وهذا ما أكدته منظمة العفو الدولية ومنظمة هيومن رايتس ووتش من خلال تقارير تبين الممارسات العنصرية لهذه الدولة.
4ــ التطهير العرقي ويعني التخلص من الفلسطينيين الذين يعيشون في غزة والضفة الغربية في غالبيتهم وبالتالي اعلان يهودية الكيان الصهيوني.
استغل العدو الإسرائيلي ما قامت به المقاومة الفلسطينية لتحقيق يهودية الدولة من خلال التطهير العرقي عبر تدمير كل إمكانية للعيش في غزة، البيوت والمستشفيات والطرقات، بالإضافة الى حصار غذائي واقفال المعابر والتحكم بوصول المساعدات الغذائية بهدف تجويع الفلسطينيين ودفعهم للرحيل عن غزة، والتهديد باقتحام رفح وطرد الفلسطينيين إلى مصر، لكن مخططها فشل وظل الفلسطيني صامداً في أرضه.
لم تستطيع دولة العدو هزيمة حماس، واعتراف قاداتها العسكريين والسياسيين ووسائل الاعلام الصهيوني بعدم القدرة على هزيمتها، ما شكل فشلاً ذريعاً لهذا الخيار.
سابقاً كانت دولة العدو تتمتع بتفوق عسكري وخاصة في سلاح الجو، والقدرة على التصعيد العسكري، والهيمنة مع محدودية قدرة المقاومة على إنزال خسائر عسكرية موجعة في جيش العدو الإسرائيلي، أو في الداخل الإسرائيلي، مع الإشارة إلى أنه في تموز2006 كانت تختلف عن سابقاتها من خلال قدرة المقاومة يومها على إنزال خسائر كبيرة طالت جيش العدو في البر والبحر مع بقاء التفوق الإسرائيلي في الجو.
في معركة طوفان الأقصى فقدت دولة العدو هذه الميزة وخاصة في جنوب لبنان، فالمسيرات التي تطلقها المقاومة تخترق أنظمة الدفاع والرادارات وتقصف الداخل الإسرائيلي وتصيب أهدافها بدقة، بالإضافة إلى إسقاط مسيرات للعدو الإسرائيلي تبلغ تكلفتها 50 مليون دولار أميركي، وتعطيل القبة الحديدية، ما جعل التفكير باجتياح لبنان ــ الذي كان بمثابة نزهة قبل وجود المقاومةــ يُحسب له ألف حساب.
تعيش دولة العدو اليوم أحلك أيامها منذ تأسيسها، فهي غير قادرة على حسم المعركة، وعاجزة عن القضاء على المقاومة في كل من غزة ولبنان، بالإضافة إلى تغيير الراي العام العالمي تجاهها، وخروج المظاهرات المنددة بما يجري في غزة في معظم دول العالم، وتصنيف الكيان الإسرائيلي دولة إرهابية في الأمم المتحدة، وإدانتها في محكمة العدل الدولية بجرائم الإبادة الجماعية، واعتراف دول أوروبية بالدولة الفلسطينية، والضغوط الأميركية والغربية على نتنياهو للقبول بوقف إطلاق النار، كل ذلك يضع دولة الكيان أمام مأزق كبير، ويضعها أمام خيارين إما القبول بالمبادرة الأميركية وحفظ الكيان الإسرائيلي الذي أشرنا إلى أنه حاجة أميركية وغربية، أو الذهاب بالحرب إلى النهاية مع دفع ثمن كبير قد يؤدي إلى ضعضعة الكيان الإسرائيلي إن لم نقل زواله، فهل تكون مبادرة الرئيس بايدن السلم الذي تنزل به دولة العدو عن الشجرة ؟