«بكل ثقة وإيمان» توجّه رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية، في الذكرى الـ46 لمجزرة إهدن، الى المسيحيين واللبنانيين مؤكداً «ان التسوية آتية واصبحت قريبة جداً ولا لزوم للخوف واليأس». فما هي هذه التسوية؟ وكيف السبيل الى وصالها؟ وماذا أراد فرنجية من خطاب إهدن الأخير؟
حديث التسوية هذا لم يدلّ به فرنجية من فراغ، انما كان استناداً الى معطيات متينة توافرت لديه حول ما يجري تحضيره من تسويات وحلول للازمات المحلية والاقليمية والدولية ولن يطول الوقت حتى تتظَهّر، خصوصاً في ظل التطورات المتلاحقة على كل المستويات لأن ما من حروب او مشكلات الّا تكون عادة نهايتها تسويات، وأزمة لبنان لن تشذ عن هذه القاعدة.
والذين تتبّعوا الخطاب الاخير لفرنجية وجدوا ان الرجل تحلّى بواقعية كبيرة تكاد تكون آسرة، وقمة هذه الواقعية كانت في اعتباره «اتفاق الطائف» الحل الواقعي لحال لبنان ولمنع اي خطر يتهدد دور المسيحيين واللبنانيين عموماً، فمصلحة لبنان ومصيره يكمنان في استمرار هذا الاتفاق القابل للتطوير وليس بالذهاب الى طروحات تقسيم وفدرلة وافتعال تشنجات لتحقيق شعبوية لا قيمة لها. ولذلك فإن فرنجية لم يتجرد في خطابه الاخير من مسيحيته، وإنما تحدث بالمنطق الوطني وبالوقائع التي تحفظ مستقبل المسيحيين واللبنانيين عموما، وهو قال انه عندما أيّد الرئيس ميشال عون لم يؤيده على اساس نسبة التأييد المسيحي له وإنما على اساس الخط السياسي الذي يجمعهما. واعتبر ان مستقبل لبنان والمسيحيين ليس في «العد» وإنما في التنوع الوطني والعيش الواحد بين اللبنانيين.
وبالعودة الى خطاب اهدن، لخّص بعض السياسيين الذين تتبعوه فَحواه الحقيقي بالآتي: «ذهبوا الى تطويق سليمان فرنجية ودلّوه على الملعب، وتحدّوه فقبِل التحدي وقال لهم «فليكن أي ملعب، أكان ملعبكم ام ملعبي؟».
فبعد المبادرة الفرنسية الشهيرة التي قامت على معادلة: سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية ونواف سلام رئيساً للحكومة، والتي ووجهت بمعارضة مسيحية شديدة، قال كثيرون ان هذه المعادلة لا يمكن ان تمر لأن هناك قوة مسيحية لا يمكن تجاوزها وهي تضم «التيار الوطني الحر» و»القوات اللبنانية» وحزب الكتائب اللبنانية، فاجتمع هذا المثلّث على مواجهة فرنجية على رغم ما بين أركانه من خلافات وتناقضات كبيرة. ولكن الرجل تصدى لهذا المثلث وقال لأصحابه: «تفضلوا الى ساحة المواجهة فمن يريد ان يصنع العجة عليه ان يكسر البيض».
وقبل ذلك عام 2014 واجهوه فقال لهم: «انا جاهز للمواجهة». فالرجل يحتسبها جيداً ويعرف طبيعة الارض التي يقف عليها، لأنه لا ينطلق من ترشيح مسيحي فقط وانما من ترشيح وطني. فصحيح انه مرشح مسيحي ولكن هذا الترشيح ذو بعد وطني كبير هو المطلوب تَوافره في كل مرشح رئاسي وفي كل من يتبوّأ سدة رئاسة الجمهورية. ففرنجية لديه ما يكفي من الاصوات المسيحية (13 الى 15 صوتا)، ولكنه في الوقت نفسه يملك كَمّاً كبيراً جداً من أصوات البعد الوطني، والنقطة الاساسية هنا هي انه اذا كان نصاب الجلسة الانتخابية متوافراً، فلا مشكلة اذا حصل الفوز بالاكثرية المطلقة، وليَفُز عندها من ينال هذه الاكثرية، لكن الفريق الآخر لم يرد هذا الامر ليتبيّن لاحقاً انه أُحرِج.
وفي الامس توجه فرنجية الى هؤلاء «المُحرجين» بخطاب بالمضمون نفسه، وفي ذكرى المجزرة الأليمة بما تعنيه من اغتيال عائلته، وبطبيعة الحال كَون هذه المجزرة ارتكبت على يد مسيحيين بسبب الخيارات السياسية آنذاك، والتي تشبه الخيارات نفسها القائمة اليوم، فإن التاريخ يعيد نفسه إذ بعد 46 عاماً ما زال الخيار الذي يمثّله سليمان فرنجية هو نفسه، فالرجل يكمل في عملية فك الطوق وتطويق الخصم الذي يطوقه، معتمداً المبدأ القائل: «أفضل خطط الدفاع هي الهجوم». وقال للخصم «تلقّف ما أقدمه لك».
ويرى المتابعون لترشيح فرنجية «ان هذا الصياد الماهر اراد في ما ذهب اليه من مواقف ان يكتشف النيات الحقيقية لخصومه، فهم يكرهون بعضهم بعضاً ولكنهم يتقاطعون على معارضته عاملين على إسقاط ترشيحه، ليتبيّن ان القضية عندهم ليست قضية سلاح «حزب الله» ومحور ممانعة وانما هي اسقاط سليمان طوني فرنجية. فرئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل لن يرشح رئيس حزب «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع «الأكثر تمثيلاً مسيحياً»، ولا رئيس حزب الكتائب سامي الجميل سيرشحه ايضاً، ولذلك فإنّ فرنجية أحرجهم، فيما دغدَغ مشاعر جعجع عندما اعتبره وبواقعية انه «الاكثر تمثيلاً مسيحياً».
ويرد هؤلاء على دعوة سامي الجميّل الى انسحاب الجميع من السباق الرئاسي، قائلين له: «ان الافضل من دعوتك فرنجية الى سحب ترشيحه هو ان تنسحب انت من تقديم الخدمات المجانية لـ»القوات اللبنانية و»التيار الوطني الحر»، فهذه الخدمات اذا سألت والدك عنها سيقول لك كيف انه أُخرِج من لبنان بسببها، ولم يتمكن جعجع يومها من حمايته من ضغوط رئيس الحكومة العسكرية العماد ميشال عون عليه، والتي دفعته الى مغادرة لبنان يومذاك، فاذهَب الى والدك الذي عاش تجربة عدم فائدة الخدمات المجانية وانسحب مما تعتقد أنك تفعل فيه جميلاً».
وكذلك يتوجه المتابعون لمعركة فرنجية الرئاسية الى باسيل قائلين له ان الحسابات التي يتحدث عنها سَبَقه الدكتور جعجع اليها «فأنت كالابن الضال الذي يتحدث عنه السيد المسيح، ففي النصف الاول من «عهدك» خسرت الناس وفي النصف الآخر منه، بل في نهايته تمكّن جعجع من ان يكرّس نفسه زعيماً مسيحياً. ولذلك لا يغرنّك أحد، فإنّ معركتك هي مع جعجع وليست مع فرنجية، لأن جعجع هو من ينافسك على الزعامة، اما اذا أيّدت فرنجية فإنما تؤيد نفسك في هذه الحال لأنه ليس طامحاً ولا طامعاً بمنافستك على زعامة المسيحيين، فهو زعيم ابن زعيم ولا يطمح لإلغاء زعامة احد. وهو بعد 46 عاما من مجزرة اهدن يعيش مرتاحاً ويقف بطلاً يواجه خصومه وسيكتب له غداً انه سيكون رئيس جمهورية لبنان. ولذلك قال ولا يزال يقول للجميع: تعالوا الى الحوار. ولم يخجل فحَيّا المقاومة في الجنوب وغزة وخاطبَ المسيحيين ودخل الى العمق المسيحي بالنقاشات وفي الارقام والاحرف مُتحلياً بواقعية منقطعة النظير، وقال للمسيحيين «نحن ابناء الرجاء». وفاضَ مسيحية وفاضَ مسامحة من اهدن، من الارض التي سالت عليها دماء أهله».
ويضيف هؤلاء «ان فرنجية في وضعٍ مرتاح، فالحلفاء يثقون به وكذلك الدول الغربية والعربية، ومن المفترض ان يكون جزءا من التسوية التي ستحصل وقال انها باتت قريبة».
ويقول المتابعون ان فرنجية عندما اعتبر جعجع الاكثر تمثيلاً مسيحياً لم يكن يبالغ فهو يفهمه وكأنه قال له «اننا نريد ان نربط معك مشروعاً للمستقبل»، علماً انّ الجميع يعرف ان رئيس تيار «المردة» أبدى استعداده ولا يزال لفتح صفحة جديدة مع جعجع واللقاء معه أجّل هذه الغاية. ولذلك يسأل البعض «لماذا لا يبادر جعجع الى فتح حوار مع فرنجية طالما ان الاميركي والعالم يؤيده، فالتسويات والانفتاح يطويان صفحة الماضي، وما الذي يمنع جعجع من ان يكون عرّاب فرنجية؟». ويضف هؤلاء «ان تصحيح الخطأ التاريخي يحصل عندما ينتخب فرنجية رئيساً للجمهورية، وهو أعطى جعجع كثيراً وعليه ان يرد على التحية بمثلها، اذ ليس بالامر السهل ان ينتخب ابن بشري ابن اهدن، وليس بالامر السهل ان تكون «القوات» عرّابة انتخاب رئيس تيار «المردة». فمثل هذه «الخلطة» اذا حصلت بين فرنجية وجعجع ستكون مفاعيلها كثيرة واستراتيجية على المستوى الوطني عموماَ وعلى المستوى المسيحي خصوصاَ.
طارق ترشيشي – الجمهورية