سناء عبد العزيز
أكثر ما يميز هاري سنكلير لويس، (1885 – 1951)، الكاتب الأميركي الأول الذي حصل على نوبل للأدب 1930، دقة ملاحظاته على نحو مثير للإعجاب، وبراعته الفائقة في التصوير الغرافيكي ورسم الشخصيات، وحسه الفكاهي في رصد المجتمع الأميركي بسطحيته وفراغه الفكري وامتثاله اللاواعي للأفكار التقليدية.
لويس من تلك الشخصيات الرحالة، لم تستوعبه أرض ليستقر فيها، ولا زوجة ليسكن إليها. حياته بدورها تراوحت بين الفكاهة والبؤس، والسخرية والكارثية، والنجاح المبهر والمبكر إلى حد ما، والمعاناة لفترة طويلة من التدهور والأفول.
في أول رواية تنشر باسمه الحقيقي، “صاحبنا السيد رن” 1914، قدم لويس تجربة ساخرة مبتكرة لموظف وديع، يستقيل من عمله لأجل أن يسافر ويخوض مغامرات عاطفية، لكنه لا يلبث أن يعود محبطاً، خائب الرجاء. قوبلت الرواية بنقد إيجابي على رغم قلة عدد القراء، لدرجة مقارنته بتشارلز ديكنز. أتبعها بأربع روايات أخرى، حققت قدراً ضئيلاً من الانتشار، ولكن بصدور روايته “الشارع الرئيس” عام 1920 طبقت شهرته الآفاق.
مسرح أحداث “الشارع الرئيس” قرية تقع بين الريف والحضر، تفقد معالمها الريفية دون أي تعويض باكتساب معالم حضارية. قاطنوها يعلون من شأن مدعيي المعرفة ودجالي السياسة، منتصرين للسطحية والتفاهة على حساب الأصالة والإنجازات الحقيقية. وفي “بابِيت 1922″، قدم شخصية البرجوازي الذي يدعي ما ليس فيه لإرضاء الآخرين. في عام 1925 صدرت له رواية “أروسميث 1925″، التي تحولت إلى فيلم يحمل العنوان نفسه، وتتكرر فيها خيبة أمل بطله الطبيب الشاب في صراعه مع قوى الشر والفساد. فازت الرواية بجائزة بوليتزر عام 1926، لكن لويس رفض الجائزة بعد أن تأخرت عليه كثيراً.
الإتيان على ذكر لويس، يعني حدثاً بعينه، حصل أثناء حفل تسليم جوائز نوبل، حيث لم يتمكنوا من العثور عليه كي يتسلم جائزته من يد ملك السويد، وبعد طول بحث وتنقيب، وجدوه نائماً في أحد المراحيض المغلقة وهو في حالة سكر مريعة! غير أن لويس لم يكن سكيراً غائباً عن الوعي، بل كان بالأحرى أكثر يقظة وانتباهاً حد الألم، بينما كل من حوله سكارى يترنحون دون أن يعوا ذلك.
روايته الشهيرة “لا يمكن أن يحدث هنا” (أمازون)
بعد فوزه بنوبل، كتب إحدى عشرة رواية أخرى، ظهرت عشر منها في حياته. أفضل ما يمكن تذكره منها هي رواية “لا يمكن أن يحدث هنا”، عن انتخاب فاشي للرئاسة الأميركية.
رواية متجددة
على الرغم من صدور “لا يمكن أن يحدث هنا” عام 1935، أثناء صعود الفاشية في أوروبا، فمازالت تطفو على أرفف الكتب بين الحين والآخر، لتتصدر قائمة المبيعات الصالحة لأحداث راهنة. في ثلاثينيات القرن العشرين تحولت إلى مسرحية حول صعود الفاشية في أميركا، وكانت الانتخابات الرئاسية لعام 1936على بعد أيام قليلة، في الولايات المتحدة التي ركعت على ركبتيها جراء الكساد الاقتصادي الكبير، عندما طرح مشروع المسرح الفيدرالي عرضاً جديداً احتل العناوين الرئيسة “لا يمكن أن يحدث هنا”.
“لم تكن سيماء هذه الليلة هزلية بين أعضاء الجمعية، على الأقل ليست هزلية على نحو صريح، إذ ألقيت خطبتان وطنيتان، الاولى ألقاها العميد هربرت ي. إدغوايز، أميركي (متقاعد)، الذي أعرب عن بالغ غضبه من موضوع “السلام من خلال الدفاع، الملايين للأسلحة ولا سنتاً واحداً من أجل التكريم”، والثانية ألقتها السيدة أديلايد تار جيميتش، التي لم تحظَ بالشهرة عن حملتها الجريئة ضد التصويت في عام 1919، بقدر ما حظيت بها أثناء الحرب العظمى، بإبعادها الجنود الأميركيين تماماً من المقاهي الفرنسية عن طريق حيلة ذكية، بإرسال عشرة آلاف مجموعة من الدومينو إليهم”.
يكتب على الآلة الطابعة وزوجته وراءه (غيتي)
في أواخر عام 1935، اشترت شركة مترو غولدوين ماير (MGM) حقوق الرواية مقابل 200 ألف دولار أميركي، وأكمل كاتب السيناريو سيدني هوارد بالفعل، ثالث عمل يحوله إلى سيناريو للويس. لكن النص كان “مناهضاً للفاشية” و”مليئاً بموضوعات خطرة”، وهو ما اضطر هوبارد إلى كتابة نهاية جديدة، “تظهر الديكتاتورية في واشنطن، ورفضها من الأميركيين الساخطين بمجرد أن يدركوا ما يحدث”.
ألهمت الرواية أيضاً المخرج والمنتج كينيث جونسون عام 1982 بكتابة مسلسل قصير عنوانه “تحذيرات العاصفة”، عرض لأول مرة في 3 مايو (أيار) 1983. وفي وقت لاحق، طُرح اعتقال فرانكلين دي روزفلت للأميركيين اليابانيين خلال الحرب العالمية الثانية كمثال على “من الممكن أن يحدث هذا هنا”. ومع تولي ترمب الرئاسة عادت الرواية مرة أخرى للظهور، باعتبارها نبوءة لويس بصعود شخص متعصب جاهل جبان ينشر مشاعر معادية للحياة.
تصف الرواية وصول برزليوس ويندريب إلى الرئاسة، بعد أن تعهد بإجراء إصلاحات اقتصادية واجتماعية. وخلال الدعاية للانتخابات ينشر ويندريب بياناً يحتوي على خمس عشرة قاعدة لحكمه، منها الإعدام شنقاً لكل من يؤمن بالفكر الشيوعي، وهو ما يتفق بالفعل إلى حد كبير مع خطاب الكراهية الذي نشره ترمب خلال فترة رئاسته.
“توجت الأمسية بكلمة السيدة أديلايد تار جيميتش، المعروفة في جميع أنحاء البلاد باسم “فتاة الأنكي”، لأنها أيدت خلال الحرب العظمى الاتصال بأولادنا في قوات المشاة الأميركية. لم تمنحهم “الأنكي” قطع الدومينو فحسب. حقاً، فكرتها الأولى كانت أكثر إبداعاً بمراحل. أرادت أن ترسل إلى كل جندي على الجبهة كنارياً في قفص. فكروا في ما كان سيعنيه لهم كنوع من الرفقة وإثارة ذكريات عن الأهل والوطن! عزيزي الكناري الصغير! ومن يدري، ربما أمكنكم تدريب البعض منها على اصطياد القمل!”
شخصية مثيرة للجدل
لكن الشخصية المطروحة في رواية لويس، لم تكن تنبؤاً بقدر ما كانت تحذيراً من احتمالية قيام نظام فاشي في أميركا بعد ترشح السياسي هيوي لونغ للرئاسة، الذي اغتيل في عام 1935 قبل أن يخوض معركته الانتخابية. كان لونغ شخصية مثيرة للجدل في تاريخ لويزيانا، حيث طال النقاش بشأنه بين أنصاره ومعارضيه، في ما إذا كان بإمكانه أن يصبح دكتاتوراً أو زعيماً غوغائياً.
حققت الرواية مبيعات هائلة، وراجت على نطاق واسع، لما يتميز به أسلوبها من بساطة وطرافة وسخرية، وقدرة كاتبها على رسم صورة دقيقة للمرأة المعاصرة.
من بين أبطالها أيضاً، الصحافي دورميوس غيسوب، الذي يكتشف حين يحاول كتابة تغطية عما يلقيه ويندريب من خطب، فلا يتذكر كلمة واحدة لها معنى، محض خطابات رنانة تنم عن فراغها المطبق، وينتهي الأمر بأن يعارضه غيسوب ويتم القبض عليه ويهرب إلى كندا.
“في تلك الأيام الطيبة سنحت للنساء فرصة بالفعل. لقد تم تشجيعهن على إرسال رجالهن، أو رجال غيرهن، إلى الحرب. وكانت السيدة جيمتش تخاطب كل جندي تقابله، وأي واحد منهم قام بمغامرة على بعد وحدتين سكنيتين منها، بـ”ابني العزيز”. بالتالي ثمة مغالطة في أنها وجهت التحية لعقيد من مشاة البحرية وصل إلى رتبته من رتب أدنى، الذي أجابها، “لا شك أن أولادنا الأعزاء حظيوا بكثير من الأمهات في هذه الأيام. أنا شخصياً أفضل أن يكون لدي مزيد من العشيقات”.
“الشارع الرئيس” رواية أخرى له (أمازون)
ويستمر التلفيق بأنها لم تتوقف عن تصريحاتها في الاحتفال، إلا لكي تكح، لمدة ساعة وسبع عشرة دقيقة، وفقاً لساعة يد العقيد”.
في سنواته الأخيرة، عاش لويس معظم وقته في الخارج. بعد أن أخذت سمعته تتدهور بشكل مطرد، وانتهى زواجه الثاني من الكاتبة السياسية دوروثي طومسون، بالطلاق. وعلى الرغم من شعبيته الهائلة خلال عشرينيات القرن الماضي، إلا أن معظم أعماله بحلول القرن الحادي والعشرين طغت عليها أعمال كتاب آخرين، مثل إف سكوت فيتزجيرالد وإرنست همنغواي، فاستسلم للشرب بشكل مفرط، ضارباً بتحذيرات الأطباء عرض الحائط. وتوفي في روما من إدمان الكحول في 10 يناير 1951 عن عمر يناهز 65 عاماً، وحرق جثمانه ودُفنت رفاته في مقبرة غرينوود في مركز سوك بولاية مينيسوتا، ولا تزال روايته “لا يمكن أن يحدث هنا” تتصدر المشهد بسخريتها اللاذعة، كلما جد جديد.
المصدر:أندبندنت العربية