الجمعة, نوفمبر 22
Banner

الوظيفة الجمالية في سيرة أ.د. حسين دشتي الذاتية في كتاب حياتي ذكريات مصورة

ضحى عبد الرؤوف المل

يتجاوز الأستاذ الدكتور حسين دشتي حدود الصورة الخاصة في كتابه الصادر حديثاً عن دار الأمير في بيروت 2024، ليفتحها مع العصر الرقمي بطريقة يحكي فيها عن قصة حياة مُستخلصة من أفراح وأتراح بحنين العمر الحاضر في كل لحظة تحوّلت مع الزمن إلى ماضٍ التقط فيه فوتوغرافياً مرئيات لا يمكن إدراك قيمتها بالكلمة، وإن تحكّمت البلاغة على التصوير الضوئي، إلا أن للعادات والتقاليد والعمارة القديمة قيمة عصر مضى حافل في حياة “الرجل الذي كانت رحلته الرائعة من الطفولة إلى التقاعد مليئة بلحظات من الانتصار الهائل والشدائد العميقة”، فبعد أن كانت ألبومات الصور القديمة هي ذاكرة العائلة؛ أصبحنا اليوم نلتقط الصور عبر عدسة خلوية يُمكن أن تحذف بسهولة، ويضيع أثر الإنسان الذي يُشكل حكاية قد تضيف بعض اللحظات التي تؤرشف لقصة إنسان حيّ تطوّر من الطفولة إلى الشيخوخة، واستطاع أرشفتها وتحويلها إلى “صورة معبّرة عن واقع الفرد وحياته”، عاداته وتقاليده ولباسه، أكله ومشربه، وسنوات الدرس حتى التخرّج، وحتى الأماكن والأحداث المهمّة في الحياة، كالمرض والزيارات خارج دولة الكويت، حتى السيارات ووسائل التنقل، كالصورة مع ابن أخته جعفر في منطقة شرق في الستينات من القرن الماضي التي يظهر فيها بالدشداشة العربية وخلفه نوافذ الأبنية في حي شرقي من منطقته التي حفرت في ذاكرته لحظة التقطتها عدسة فوتوغرافية، وأعادت إلى الذاكرة قيمة لا تقل أهمية عن صورة له في دوار سينما الفردوس في ستينات القرن الماضي، ومعه محمود عباس ذوالفقار حيث يظهر التليفون القديم مع لوحة قديمة، واللباس المختلط ما بين الكويتي والبنطلون والقميص، فماذا عن صورة في تاج محل أكرا – دلهي؟ فهل حنين ألبومات الصور القديمة ستتحول مع الزمن إلى كتب ورقية تحمل بصمة إنسان عاش مختلف اللحظات التي تتيح له تشكيل حرية ابتكارية مكونة من سيرة ذاتية بلغة الصورة الفوتوغرافية؟ وهل لكل صورة تعبيرها اللغوي الخاص الذي يعكس أسلوب الدكتور دشتي وشخصيته؟

يقع الكتاب الذي صممّه وأخرجه الفنّان القدير أسامة عزيز عيسى في 596 صفحة من القطع الكبير في طبعة فنية فاخرة تتميز بطباعتها الملونة عالية الجودة، لكن أحد الجوانب الأكثر متعة في هذا الكتاب المصوّر عن سيرة حياة حافلة بالذكريات هو الفصل الرابع والطفولة واليتم والأحداث المتعلقة بحضوره لفيلم هندي (كنكا وجمنا) في دوار سينما الفردوس؛ ليُعاقب بعدها على حضوره الفيلم والبكاء من أحداث الفيلم أكثر من الضرب، ومن مفارقات الزمن كان زيارة بطل الفيلم “ديليب كومار إلى الكويت سنة 1998، وكان سفير الهند حاضراً فتحدثت عن الواقعة التي حصلت لي قبل 30 عاماً فضجّ المكان بالضحك. وقلت للمثل ديليب كومار: لقد كنت أنت السبب في ذهابي إلى الهند وبكائي عند الضرب…” فتخليد وجوده مع بطل فيلم كنكا ديليب كومار وهو يبتسم في حضور يجمعه مع الممثل في مصافحة ومحادثة هي التعبير الفني لشهادة ملموسة على الحياة السينمائية وتأثيرها بين الماضي والحاضر على تكوين شخصية الإنسان وما يتبقى في الذاكرة من لحظات لا تُنسى.. أو الأحرى؛ ما امتلأت به الذاكرة ما بين الطفولة والشباب، وتستعيدها الذاكرة عبر الصورة كشاهد حيّ على أحداث بليغة في حياة الإنسان. فهل البُعد الإنساني في هذا الكتاب هو عاطفي أخلاقي يبدأ بصورة مع الحفيد وجملة من جد لحفيده ذهبية بامتياز “عندما تكبر سأجعلك صديقي، وعندما أكبر تعامل معي على أنني أحد أطفالك، ولكن إياك أن تشعرني بذلك!!!”؟ أم عبر الفصل الخامس وعنوانه “بالعلم والأخلاق.. تلتقي وتتقدم الأمم” وماذا عن مسيرته العلمية؟ وماذا عن صورة تجمع طلبة المدرسة في الخمسينيات من القرن الماضي؟

يتيح لنا كتاب “حياتي ذكريات مصورة” للبروفيسور دشتي تحويل المحسوس من الذكريات العالقة في زمن مضى إلى ملموس بصري ولغوي للتذكير بلحظات مشتركة مع الآخرين ممن حوله، وكأن الصورة الفوتوغرافية هي حارسة الذكريات حتى في بطاقة العلامات الدراسية وصولاً إلى خارج الكويت مع الشخصيات المُحببة إلى نفسه الجميلة، ومنها إلى الداخل، والابتسامات المتبادلة مع الأهل والأصدقاء في المناسبات والجلسات الحميمة واللحظات التي منحتنا معنى مختلف لوجودنا كتلك التي مع الأحفاد وأبناء العمومة والخالات والأخوال، وغير ذلك من التفاصيل التي تُشير إلى تغيّر الإنسان وتطوّره الزمني والفكري والعلمي، والأهم من كل ذلك نضاله الاجتماعي والحاجة المستمرة إلى الإنسانية والفطرة في التواصل مع الآخرين عبر الزمان والمكان التي ترجمها في صفحة 107 وهي بعنوان الرحمة لمصطفى لطفي المنفلوطي وفيها “أيها السعداء، أحسنوا إلى البائسين والفقراء، وامسحوا دموع الأشقياء، وارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء”، ناهيك عن الدراسات والمقالات الطبية، والاهتمام بصحة الإنسان التي درسها وتعمّق فيها وصوّرها، كي تبقى عبر الذاكرة الحياتية موثقة بعيداً عن التكديس الورقي الذي يتم إتلافه بعد فترة الرحيل الزمنية. فبناء تاريخ حياة الإنسان يُثري حياة الأحفاد وأحفاد الأحفاد، وحتى البلد الذي نعيش فيه؛ وإن تبوأ الإنسان العديد من المناصب المهمّة في حياته؛ يبقى التحدي الأكبر هو القدرة على الاحتفاظ بذكرياته المصوّر منها والمحفور في الذاكرة لإحياء الأيام التي عاش السعيد والحزين منها، وبنكهات مختلفة عابقة بلحظات من حلم تحقّق بعضه أو كله، وبما يرادف حيوات الأصدقاء والأقارب والأحبة. وبهذا نستطيع إعادة بعض ما حذفته الذاكرة، ومن ثم نستعيده بواسطة صورة فوتوغرافية مهملة أو مخزّنة في صندوق الصور؟ وهكذا تخطى البروفيسور دشتي التكنولوجيا العصرية والعيوب الفنية الرقمية من فقدان الصور في خلوي ضاع أو تمّت سرقته أو أصيب بتلف في ذاكرته عبر كتابه هذا ذكريات مصورة.. فهل يُضفي كل هذا صيغة إنسانية على من رافقونا أو رافقناهم في الحياة وكانت معهم لحظات عشناها ولا تُنسى؟ وهل يعتبر هذا ملكية خاصة عامة وفيه الكثير من الأحداث المهمة التي رافقت مشواره الطويل طبياً واجتماعياً وفنياً وأدبياً وغير ذلك؟ تبقى الإجابة الشافية منوطة بالقارئ لكتابه، لكن الأكيد أن الدكتور الدشتي استطاع في هذا الكتاب الرائد أن يجعل من حياته الزاخرة مادة مصوّرة وموثقة للأجيال، وأن يوجّه لهم رسالة بالصورة مفادها: إن الإنسان بإرادته وصبره وصدقه يستطيع أن يحوّل المستحيل إلى واقع معيش.. ودليلنا على هذا؛ كتابه الذي بين أيدينا.

*كاتبة وإعلامية لبنانية، نشرت عشرات المقالات الأدبية والنقدية والثقافية في الصحف والمجلات اللبنانية والعربية.

 

Leave A Reply