حالة طوارئ قائمة منذ 7 أكتوبر ومخزون السلع يكفي لشهرين فقط والتكيف مع الأزمة الاقتصادية يقلل المخاوف
تتأرجح الظروف الحالية في لبنان ما بين احتمال توسع رقعة الحرب والحلول الموعودة المنتظرة، حتى بات الجميع يخشى اللحظة التي قد تنزلق فيها الأوضاع نحو العنف، لتتوسع الحرب وتشمل معظم الأراضي اللبنانية. هذا السيناريو سيكون كارثياً، خصوصاً مع إغلاق المرافق اللبنانية مثل المطار والمرفأ والحدود والمعابر.
ويحذر مراقبون وباحثون في الاقتصاد من أن هذا الأمر من شأنه أن ينعكس سلباً على الحركة التجارية في الأسواق، ما قد يؤدي إلى نقص حاد في البضائع والخدمات وارتفاع الأسعار بشكل جنوني، مفاقماً من معاناة المواطنين والأزمات الاقتصادية الحالية. فما هي السيناريوهات المحتملة وكيف يتحضر لبنان لتأمين استمرارية الإمدادات الحيوية؟
جولة على الأسواق
خلال جولة لـ”اندبندنت عربية” على الأسواق التجارية، صرح أحد تجار الجملة، الذي يمتلك مستودعات لتخزين المواد الغذائية في جبل لبنان ويوزعها على محال التجزئة، أن “السوق اللبنانية سوق حرة، لذلك استورد كميات أكبر من حاجات السوق من المواد الغذائية، مع مراعاة فترة انتهاء صلاحيتها، هذا الإجراء يأتي نتيجة تخوفنا من اتساع رقعة الاشتباكات لتتحول إلى حرب شاملة. في هذه الحال، سيصبح من المستحيل على أي تاجر استيراد المواد الغذائية، وسيعتمد الشعب على المساعدات الإنسانية”. وأكد أنه لا يهدف من وراء ذلك التخزين إلى احتكار المواد الغذائية وفرض الأسعار، بل إلى تأمين حاجات شرائح واسعة من المجتمع.
يقول أحد أصحاب سلسلة من المحال التجارية للمواد الغذائية في بيروت “أستورد كميات أقل من حاجات السوق اللبنانية، لأنني وعديد من التجار تأثرنا باحتجاز أموالنا في المصارف كسبب أول، ما يمنعنا من الاستيراد بشكل كاف نظراً إلى إمكاناتنا المالية المتواضعة. والسبب الثاني خوفنا من الخسارة المادية في حال الدمار الشامل”.
وقد أصدرت الجهات المعنية بيانات تحذيرية عدة منذ بداية تطورات حرب غزة في أكتوبر (تشرين الأول) 2023، متخوفة من انقطاع البضائع وارتفاع كلف الشحن وتأخير اللوجيستيات بسبب أزمة البحر الأحمر. وعلى رغم هذه التدابير، ما زالت الأوضاع تميل إلى احتمال اندلاع الحرب.
بداية الأزمة الاقتصادية (2019) وانعكاساتها
تسببت الأزمة الاقتصادية في لبنان بانخفاض القدرة الشرائية حيث فقدت العملة أكثر من 90 في المئة من قيمتها، ما أدى إلى ارتفاع الأسعار وانخفاض كبير في الطلب على السلع والخدمات. عديد من الشركات أغلقت أبوابها وزادت معدلات البطالة، في حين تراجعت الاستثمارات المحلية والأجنبية، إضافة إلى انتعاش السوق السوداء وهجرة الكفاءات إلى الخارج، ما فاقم من معاناة الشعب اللبناني الاقتصادية والاجتماعية.
نتيجة لذلك، استطاع المواطن اللبناني أن يتأقلم مع عديد من جوانب هذه الأزمة. وقد اعتمد بشكل كبير على التدفقات المالية الآتية من المغتربين الذين هاجروا للعمل في الخارج، ويصل عددهم إلى 500 ألف لبناني. هذه التدفقات المالية أصبحت بديلاً لشبكة الأمان التي تقدمها الدولة عادة في جميع القطاعات مثل التربية والصحة والاستهلاك والطبابة والغذاء. وقد حصل لبنان في عام 2022 على المرتبة السادسة عالمياً من حيث التحويلات المالية التي بلغت 6.4 مليار دولار، وفقاً لتقرير البنك الدولي.
في السياق، يعتبر الباحث الاقتصادي والمالي بلال علامة، أن “الحركة التجارية في الأسواق اللبنانية تكيفت اليوم مع تداعيات الأزمة الاقتصادية التي بدأت أواخر عام 2019، نظراً إلى النظام الاقتصادي الذي يعتمد بشكل كبير على القطاع الخاص وفي الوقت ذاته على الطرق غير الرسمية، بما في ذلك التهريب عبر المعابر غير الشرعية”.
سيناريوهات محتملة
وعن السيناريوهات المحتملة في حال توسعت رقعة الحرب وتعرض لبنان لعدوان كبير، توقع علامة أن “تتغير الأمور بشكل كبير”، مشيراً إلى أن “الطرق غير الشرعية التي تستخدم حالياً لن تكون كافية لتلبية حاجات لبنان”، لافتاً إلى أن “لبنان يعاني نقصاً حاداً في السلع الاستراتيجية، مع عدم قدرة عملية الاستيراد والتخزين على تأمين أكثر من شهر من الحاجات”.
وفي ما يتعلق بالأرقام الرسمية حول عملية استيراد المواد الغذائية وكيفية تغيرها خلال السنوات الأخيرة، يؤكد علامة “عدم وجود بيانات دقيقة صادرة عن مصلحة الجمارك حول حجم الاستيراد”، مشيراً إلى أن “جزءاً كبيراً من الاستيراد يتم عبر المعابر غير الشرعية”. كما يرى أن “التغييرات في الرسوم والضرائب المفروضة على الاستيراد جعلت من الصعب الحصول على أرقام دقيقة، وربما تكون هناك رغبة في إخفاء الأرقام الحقيقية من قبل مصلحة الجمارك بسبب وجود استيراد غير شرعي وبضائع مهربة”.
يتسوق الناس داخل سوبرماركت في بيروت (رويترز)
ويوضح علامة أنه “إذا توسعت الحرب وتم إغلاق المرفأ والمطار، فستتأثر عديد من البضائع المستوردة، وأخطرها ستكون الأدوية والمستلزمات الطبية ووسائل الإغاثة السريعة”، مؤكداً أن “هذه الأمور ضرورية، إلا أن لبنان يفتقر إليها كمخزون استراتيجي، حيث إنها متوافرة للاستهلاك فقط وليس للتخزين الطارئ”. إضافة إلى ذلك، يشير إلى أن “واردات القمح والمحروقات وبعض السلع الأساسية والمواد الأولية المستخدمة في الصناعات ستتأثر أيضاً. وفي حال توقفت الإمدادات من هذه المواد، ستتوقف الصناعات المحلية عن تزويد السوق اللبنانية بالبضائع”.
وعما إذا كانت مناطق معينة ستتأثر أكثر من غيرها بخاصة ذات الثقل الشيعي، يؤكد علامة أن “توسع رقعة الحرب سيؤدي إلى نزوح السكان من مناطق الثنائي الشيعي إلى مناطق أخرى، مما سيؤدي إلى تعرض جميع المناطق للظروف ذاتها من نقص في المواد الغذائية والسلع الاستراتيجية وتباطؤ الحركة التجارية”.
تداعيات الحرب على الأمن الغذائي
في هذا الإطار، شهد لبنان مجموعة من الأحداث التي زادت من تفاقم أزمة انعدام الأمن الغذائي إلى جانب الأزمة المالية وفقدان القدرة الشرائية والتضخم. من أبرز هذه الأحداث انفجار مرفأ بيروت في أغسطس (آب) 2020، الذي أدى إلى تدمير صوامع الحبوب وجعلها غير صالحة للاستخدام. إضافة إلى ذلك، تفشي وباء كورونا أضر بسلاسل الإمداد بشكل كبير، وتفاقمت الأزمة أكثر بفعل الحرب في أوكرانيا.
وعن تداعيات الحرب المحتملة على المواد الغذائية، يؤكد رئيس نقابة مستوردي المواد الغذائية، هاني البحصلي، لـ”اندبندنت عربية”، أن لبنان “يعيش في حالة طوارئ منذ أكتوبر 2023، أي مع بعد بدء عملية طوفان الأقصى”، معرباً عن قلقه من “إمكان تكرار سيناريو حرب يوليو (تموز) 2006، إذ قد يؤدي قصف الشاحنات إلى تعطل الإمدادات والعجز عن الوصول إلى المواد المخزنة”، موضحاً أنه “خلال شهري مارس (آذار) وأبريل (نيسان) من هذا العام أصدرت الجمارك اللبنانية إجمالي الاستيراد لعام 2022-2023، إذ بلغ نحو 19 مليار دولار أميركي، وهو أقل بمليار دولار مقارنة بعام 2019. أما أرقام النصف الأول من هذا العام، فلم تصدر بعد، فالأرقام الجمركية التي نعتمد عليها توقفت في ديسمبر (كانون الأول) 2023، مما يتركنا من دون معلومات دقيقة عن الوضع الحالي”.
وعما إذا كان هذا الرقم (19 مليار دولار) يعكس التعافي الاقتصادي، أكد البحصلي أن “الأمر يحتاج إلى تحليل دقيق لمعرفة ما هي الأصناف التي يتم استيرادها وما هي التي انخفضت، مما يستدعي دراسة شاملة للوضع”.
وإذ يوضح البحصلي أن “الأمن الغذائي يرتكز على ثلاثة عناصر: وجود الغذاء، الوصول إليه، وصحته”، يشير إلى أنه “في الوقت الحاضر، الغذاء في المستودعات يكفي لفترة تتراوح بين شهرين إلى ثلاثة أشهر وهذا في الظروف الطبيعية، إذ إن المرفأ لا يزال يعمل بشكله الطبيعي، لكن في حال اندلاع الحرب، قد يتعذر الوصول إليه بسبب القصف وإغلاق السوبرماركت مما يعوق تطبيق أي خطة طوارئ”.
ويستذكر حرب يوليو 2006، قائلاً “لبنان لم يشهد مجاعة حينها، وقد استمرت الحرب 33 يوماً وأدت إلى إغلاق المرفأ لمدة شهر ونصف”، لافتاً إلى أنه “على رغم عدم وجود خطة طوارئ آنذاك، فلم نكن مستعدين لذلك ولم نتوقعه، لكن الأمور سارت بشكلها الطبيعي لأن المرفأ عاود العمل على رغم التحديات”.
انعكاس الحرب على الأسواق التجارية
من جهة أخرى، يبدو أن الوضع التجاري الحالي في لبنان يتماثل للشفاء على رغم التحديات التي عصفت بالبلاد في السنوات الأخيرة، وتزايد الحديث حول حدوث حرب محتملة. إلا أن الحركة التجارية تراجعت قليلاً مقارنة بالسنة الماضية.
في السياق، يوضح الأمين العام للهيئات الاقتصادية ورئيس جمعية تجار بيروت نقولا شماس، أن “القطاع التجاري يتكون من ثلاثة مجالات رئيسة: المحال التجارية، والمراكز التجارية الكبرى، والأسواق”، لافتاً إلى أن “الحركة التجارية ككل انخفضت بنحو 20 في المئة مقارنةً بالصيف الماضي”.
ويتابع شماس قائلاً: “كنا نعول على تراكم إيجابي بعد السنوات السيئة في 2021 و2022، حيث شهدنا انعطافة في عام 2023 واعتقدنا أنه يمكن البناء عليها، لكن بسبب النزاع في أواخر العام الماضي، تدهورت الأوضاع التجارية بشكل ملحوظ”، مشيراً إلى أن “القطاعات الأخرى مثل السياحة والمطاعم شهدت حركة أفضل، بينما الدورة التجارية بطيئة جداً في أوائل الصيف”، موضحاً أن “مطار بيروت الدولي أصبح عملياً يخدم لبنان وسوريا، مما يعقد الأمور أكثر، بخاصة مع تراجع السياح من الجنسيات الأوروبية وتأثر الحركة السياحية”.
محال مغلقة وسط بيروت (رويترز)
ويرى أن “المشكلة الأولى تكمن في أن الرافد المالي من الخارج لم يتحقق، والمشكلة الثانية داخلية حيث لم تتحسن القدرة الشرائية للبنانيين بما يكفي. أما التضخم فلا يزال كبيراً، والأسعار الاستهلاكية مرتفعة مما يزيد من تحديات الأسر اللبنانية”.
ويوضح أن “القطاعات التجارية الأخرى مثل تجارة السيارات والمفروشات والألبسة أصبحت تعتبر من الكماليات، مما يزيد من ضغوط الأزمة على الاقتصاد اللبناني”. وتابع: “نحن متأثرون بالوضع الإقليمي المضطرب، والذي يعكر مزاج المستهلكين ويؤثر في عمليات الشراء في البلاد، بخاصة أنه لا توجد خطط احتياطية في حال اندلاع الحرب، وسيكون التجار عرضة للضربات”.
صمود الأسواق على رغم التحديات
ويشير شماس إلى أنه “على رغم أن لبنان لم يتعاف بعد من الأزمة المالية التي بدأت أواخر عام 2019، وتأثير النزوح السوري على الموارد الوطنية، فإن الشق الإيجابي في الموضوع هو استئناف خدمة استرداد الضريبة على القيمة المضافة في مطار بيروت والتي كانت متوقفة منذ عام بسبب الانهيارات المالية والنقدية التي شهدتها البلاد، مما انعكس سلباً على قدرة السياح باسترداد الضرائب وأدى إلى عزوفهم عن الشراء والتسوق في لبنان”، مضيفاً أن “جمعية تجار بيروت بالتعاون مع شركة “غلوبال بلو” ووزارة المالية تمكنت من إعادة تفعيل هذه الخدمة لغير المقيمين، حيث إن غيابها كلف لبنان كثيراً”، مشيراً في الوقت عينه إلى أن “أسعار السلع في لبنان أصبحت متناسقة مع أسعار دول الخليج، وأرخص قليلاً، مما يعزز جاذبية التسوق”.
وعن إعادة افتتاح المحال التجارية في الوسط التجاري في بيروت، يكشف أنها “كانت منتظرة في فترة الأعياد لعام 2023، إلا أن ذلك تأخر بسبب عملية طوفان الأقصى. ومع ذلك، فمن المتوقع اليوم أن يفتتح أكثر من 140 محلاً تجارياً وعلامات تجارية كبيرة من الخارج ومن لبنان قبل نهاية العام”، مؤكداً أن “إعادة افتتاح محال تجارية وفنادق كبيرة في المنطقة، إضافة إلى المطاعم والمكاتب التجارية، ستسهم في إعادة الحياة إلى وسط بيروت التجاري وتحريك العجلة الاقتصادية والاقتصاد الوطني”.
كما يشير شماس إلى أن “التجار لا يملكون تمويلاً مصرفياً للاستثمار في هذه المحال، وأن الاستثمار يتم من (اللحم الحي)، وهو تعبير عن الإيمان ببيروت ولبنان. وعلى رغم الأزمات المتتالية، يبقى لدى التجار إرادة الحياة والاستمرار من دون انقطاع”.