السبت, نوفمبر 23
Banner

“تكسير” باصات النقل المشترك يوم انطلاقها: من يرفض الدولة؟

أعادت مبادرة تشغيل باصات النقل المشترك، ضخّ الدم في عروق مؤسسة عامة تعيش في غيبوبة منذ عقود، هي مصلحة سكك الحديد والنقل المشترك، التي أحيَتها عملية تشغيل الفوج الأوّل من الحافلات التي قدّمتها فرنسا كهبة للبنان منذ نحو سنتين.

لكن انطلاق عمل الباصات، يوم أمس الخميس، لم يكن هادئاً. إذ تمّ الاعتداء عليها من قِبَل بعض أصحاب الباصات العمومية في منطقة الدورة، معتبرين أن الباصات الجديدة أتت لتنافسهم. ومع أنّ أحداً لم يتبنَّ الاعتداء بشكل صريح، بل تم استنكاره ورفضه من اتحادات النقل البرّي، إلاّ أن وقوعه يؤشِّر على ما قد تكون عليه خطوط سير تلك الباصات مستقبلاً. كما يتّصل الحادث بالنظرة إلى موقع الدولة من قطاع النقل واحتمال تطوير دورها في قطاعات أخرى. فالفوضى المنتشرة في مختلف القطاعات لا يمكن ضبطها بسهولة أو كسر قانون الأمر الواقع بمجرَّد إلباس أي مشروع لباس الدولة أو القطاع العام.

تفيعل دور الدولة وتأمين الحماية

تحت مظلّة مصلحة سكك الحديد والنقل المشترك ستسير الحافلات التي تمتلكها الدولة ويشغّلها القطاع الخاص، من خلال شركة “الأحدب اللبنانية للمواصلات” التي رست عليها المزايدة العمومية التي طرحتها وزارة الأشغال، بعد تقديم الشركة عرضاً يقضي بإعطاء الدولة 10 بالمئة من الإيرادات قبل حسم النفقات التشغيلية. وهذا التعاون مع القطاع الخاص هو بنظر وزير الأشغال علي حمية “أوّل نموذج حقيقي وواقعي للشراكة ما بين القطاعين العام والخاص، حيث تكون الدولة اللبنانية هي المراقب والمنظِّم والقطاع الخاص هو المشغِّل”. وبالتالي، فإن الاعتداء الذي طال الباصات يشكِّل اعتداءً على الدولة، وليس فقط على الشركة الخاصة، سيّما وأن الباصات ملك للدولة. ولهذا يدعو المدير العام للسكك الحديد والنقل المشترك زياد نصر، في حديث لـ”المدن”، إلى “حماية القطاع وعدم تركه أمام الفوضى”، وبنظره “على القوى الأمنية أن تواكب عمل الباصات وتحميها من أي اعتداء”.

بالتوازي، يقلّل رئيس اتحادات ونقابات النقل البري في لبنان بسام طليس، من أهمية الاعتداء الذي “قد يكون مَن نفَّذه هم بعض أصحاب الباصات غير القانونية”. ويعتبر في حديث لـ”المدن”، أنه “تمّ احتواء الأمر. ويمكن اعتباره حدثاً عَرضياً يحصل عادةً بين أصحاب الباصات العمومية”. وينظر طليس إلى إطلاق الباصات الجديدة بنظرة إيجابية، فهي تشكِّل “إعادة إحياء مؤسسة عامة لبنانية غائبة منذ نحو 40 عاماً”. وكما يؤكّد حمية أن الباصات الجديدة “لا تنافس أصحاب اللوحات الحمراء، بل يكمّلون بعضهم البعض”، يعتبر طليس أن الباصات “ستشكِّل منافِساً شريفاً لأصحاب الباصات والسيارات العمومية الذين يعملون حالياً على الطرقات، لأن وجود باصات جديدة مملوكة من الدولة وبمواصفات متطوّرة، سيدفع أصحاب الباصات والسيارات العامة إلى تنظيم أمورهم والالتزام بالقانون والقيادة بهدوء وبمسؤولية”.

وعليه، فإن حادثة التكسير بالنسبة إلى طليس “باتت وراءنا، ولا داعي لتضخيم الأمر، بل المطلوب التركيز على الخطوة الإيجابية لإطلاق المشروع”. ورغم تأييده للمشروع، يدعو طليس الدولة إلى “استكمال عملها من خلال تطبيق القانون ومنع المخالفات المتعلّقة باللوحات العمومية المزوَّرة وبالسيارات الخاصة التي تعمل كسيارات أجرة. ولفتَ النظر إلى وجود “نحو 4250 باص قانوني من أصل نحو 16 ألف باص يعمل حالياً على الطرقات”. ولم يستبعد طليس أن “مَن بادَرَ للاعتداء على باصات النقل المشترك، قد يكون من أصحاب اللوحات العمومية المخالفة للقانون”.

وفي الإطار نفسه، لم يأخذ الكثير من أصحاب الباصات العمومية حادثة الاعتداء على باصات النقل المشترك على محمل الجدّ. بل رحّبوا بـ”وجود الدولة بأي شكل من الأشكال في قطاع النقل”، وفق ما يقوله عدد من أصحاب الباصات الذين يجمعون خلال حديث لـ”المدن”، على أن “زيادة عدد باصات نقل الركّاب لن يسبِّب أزمة في قطاع النقل الذي ما زال قادراً على استيعاب عدد إضافي من الباصات. بل على العكس، فإن تطبيق القانون سيُوقِف عن العمل الكثير من الباصات المخالِفة، ما يمنح الدولة القدرة على تسيير باصات إضافية”.

تكرار الاعتداءات ممكن

الاعتداءات على الباصات الجديدة قد تتكرَّر وتتوسَّع دائرتها مع إطلاق باقي خطوط السير في مراحل لاحقة “قبل حلول شهر أيلول المقبل”، وفق حمية، والخطوط ستصل إلى صور جنوباً وطرابلس شمالاً. والخطوط المفترضة عددها 11، ستستوعب 96 باصاً، فيما يعمل اليوم خطّ واحد من منطقة نهر الموت شمال بيروت إلى الحمّام العسكري في منطقة المنارة في العاصمة، ويسير عليه 8 باصات.

واحتمال تكرار الاعتداءات يمثّل استهتاراً بدور الدولة، مع أنه ينطلق في الظاهر من الخوف من المنافسة، أي من محاولة حماية لقمة العيش. وهنا يشير بعض أصحاب الباصات العمومية إلى أن “باصات النقل المشترك لن تنافس الباصات العاملة حالياً، سيّما خلال عملها بين مناطق الأطراف. فأغلب الباصات الحالية تعتمد على النقل إلى الأطراف، وربما تمتاز عن باصات النقل المشترك بمرونة الوقت واختيار الركّاب. ثمّ إن أغلب أصحاب الباصات، باستثناء العاملة ضمن بيروت وضواحيها، هم من أبناء القرى الذين يعتمدون بشكل رئيسي على ركّاب يحجزون أماكنهم مسبقاً ذهاباً وإياباً، بمعنى أن السائق لن يخسر، بل على العكس، يمكنه أحياناً الاستفادة من ركّاب آخرين قد يقلّهم على خط سيره من بيروت إلى القرى”.

ورسم السائقين لخطوط عمل باصات النقل المشترك والكثير من الباصات العمومية، يسحب من يد المعتدين ورقة ضغط تتعلّق بالمنافسة، حتى داخل بيروت وضواحيها، إذ أن تطبيق القانون سيوقِف عمل السائقين المخالفين وقد يطال ذلك بعض المتعدين. ولذلك، فإن الاعتداء على الباصات يطال الاعتراف بالدولة ونفوذها ومشاريعها، وهو سجال سيبقى مفتوحاً.

حصّة الدولة والأكلاف

في ظل نقاش استعادة دور الدولة المرافق لإطلاق مشروع الباصات، تُطرَح علامات استفهام حول حصّة الدولة من مشروع النقل المشترك. فالسائقون العموميون يؤكّدون أنه “من حقّ الدولة أن تأخذ نسبة أكبر من 10 بالمئة من عائدات المشروع”، لكن نصر يعتبر أن “تشغيل الباصات بحدّ ذاته هو خطوة إيجابية”. ويوضح أن النسبة التي ستحصل عليها الدولة هي أرباح صافية “قبل أي اقتطاع لأي أكلاف ونفقات وضرائب. كما لا علاقة للدولة بحجم الرواتب التي تدفعها الشركة للسائقين. فأجور السائقين والنفقات التشغيلية والصيانة وغيرها، تتحمّلها الشركة المشغِّلة”.

وإذ يطرح السائقون العموميون من خلال خبرتهم، مسألة تغيُّر الأكلاف وزيادة أسعار المحروقات وتحرّك سعر صرف الليرة وتأثير ذلك على كلفة النقل، وتالياً حصة الدولة، يوضح نصر أن “دفتر شروط تلزيم المشروع يلحظ إمكانية تغيير الأكلاف وتعرفة النقل عند حصول تغييرات في أسعار النفط العالمية بشكل كبير أو عند تعديل سعر صرف الليرة. وكما يمكن للتعرفة أن ترتفع يمكنها أن تنخفض، وهذا الأمر يمكن ضبطه وفق القانون”.

حتى الآن، فإن تعرفة النقل على خط سير باصات النقل المشترك هي 70 ألف ليرة. وعند تشغيل الخطوط الأخرى، ستصل إلى 170 ألف وإلى 200 ألف ليرة بحسب وجهة الباصات، وهي تعرفة تتطابق مع ما يأخذه أصحاب الباصات العمومية، وهو ما يدعم غياب المنافسة إلاّ بشكلها القانوني. لكن المسألة ليست دائماً بهذا الهدوء. إذ أن الإيجابية التي تمثّلها إعادة إحياء مؤسسة عامة، يخرقه غياب انتظام العمل والرقابة في مؤسسات الدولة، وهو ما يفتح المجال للشك في عملية تلزيم وتنفيذ أي مشروع حتى إثبات العكس، حتى وإن كانت إدارته بيد القطاع الخاص، فتجربة قطاع الخليوي ماثلة أمام الجميع. وطالما أن الدولة غير قادرة على فرض وجودها، فإن حادثة الاعتداء على الباصات قد يُنذر بالمزيد من الفوضى ويضع الدولة أمام امتحان لحماية ممتلكاتها واستثماراتها.

خضر حسان – المدن

Leave A Reply