صَبَر الشاعر محمد علي شمس الدين على لُغَته الشعرية، وصَبَرت عليه، إلى الوقت الذي بات بإمكانهما أن يكبرا معاً، وأن يتسع العالَم لهما من دون أي خيانة لِلذات الشعرية ولِلّغة التي هي الأسلوب والمعاني الجديدة وتكنيك تركيب القصيدة. من البداية، ومع مرور الوقت كان شمس الدين مهتمّاً بأن يكون هو ولا أيّ آخَرٍ معه في شِعره، فكانت تتمدّد تجربته في ذاتها، تحفر في ما حولها وفي مداها وتحتل مساحات جديدة لا هي مستلَبة من «أرض» أحد، ولا مستعارة. أقول هذا الكلام وبين أيدينا شُعراء، تكتشف في دواوينهم محاولات للخروج من وضعية لغوية معينة فلا يستطيعون، ومِن توجُّه أسلوبي معين فيفشلون، ومِن جُملة يعتقدون أنهم تجاوزوها فيسقطون في جُمَل «الآخرين» في شكل علني!
محمد علي شمس الدين مات وفيّاً لنَبْع شِعره في اللغة والوجدان، وللجنوب. الأرض التي أنبتَته وكبّرتْه وصيّرتْه شاعراً. وكما فعَل في تجربته الشعرية حفراً في التراب وفي المدى وفي الأدوات الإبداعية، هكذا فعَل في شُهرته حفراً بين لبنان والعالَم العربي الذي كان ينظر إليه نظرته إلى روّاد قصيدة التفعيلة لا إلى من أتى بَعدهُم. وكان يحرص بشدّة على أن يكون حاضراً في كل مكان دُعي إليه لتكريم أو للمشاركة في توقيع ديوان في كل بلد عربي. والوفاء للجنوب هو وفاء للتسمية التي أُطلقَت على مجموعة شُعراء من جنوب لبنان، ظهروا في أوقات متفاوتة، أوائل السبعينيّات، وكانت قصائدهم في الأغلب الأعم ذات هوىً جنوبي نصوصاً ومناخات ومعاني ومقاوَمة.. والمقاوَمة كانت يومها لأحزاب وطنية وللثورة الفلسطينية. وإذ «سافر» بعض شُعراء الجنوب، بعد هذه المرحلة، في اتجاهات إنسانية وذاتية ولم تعُد المقاوَمة عندهم هي نفسها بعدما تحوّلت مرجعيتُها «إسلامية»، ووجدوا أنفسَهم في مطارح أُخرى، بقي محمد علي شمس الدين يحفر في أرض المقاومة وترابها، وتعلّق شِعره بالمعاني الروحية التي تبثُّها المقاومة والمقاومون في ما يتجاوز الحالة «الفدائية» الوطنية إلى الحالة الإيمانية الأكبر والأوسع التي أوصلَته في تقديري إلى العالَمِ «الصوفي» الذي انتشر في قصائده، على الأقل في دواوين ثلاثة، وثمة رابعٌ «تَرجمَ» فيه عن الفارسية، بتصرف لُغوي وتخييلي وصوفيّ عربيّ قصائدَ للشيرازي، وكان فيها ذلك الهائم الجميل في بديع الإلهيّات والأرواح والإلتصاق بسماء على الأرض.
خُذ يا صُهيبُ فمَ الإبريق في شغفٍ
واسكبْ شرابَك من أصلِ الفراديسِ
فلا يُعيب على الندمان خمرتهُم
إلّا الذي لم يجرّبْ «حاديَ العيسِ»
على الصّراطِ أرى الساقي يناولُهم
كأسَ الشراب ويرعاهمْ كقديسِ
أهلُ القلوب أرى مفتاحَ بهجتهم
نارا تراءت لهم في ركنِ إِبليسِ
تمشي الهُوَينا مطاياهُم على أملٍ
ونقتفيهم على ضربِ النواقيسِ
طبعاً تستحق تجربة «شعراء الجنوب» دراسة خاصة (ليس الآن وقتها) تحليلية للظروف الموضوعية السياسية والإجتماعية والثقافية التي رافقتهم، ونشأوا في ظلالها، وعبّروا عنها وسط تعاطُف واسع من الناس الذين كان الجنوب قضيَتهم المحلية وكانت المقاوَمة الفلسطينية قضيتهم العربية، فقد كانت لهم سِمات مشتركة في الهمّ الوطني، وهَمّ اللغة، وهَمّ التجديد في الشّعر، ودواوينهم الأولى ومشتركاتُها البنيوية والتعبيرية واضحة.. لكن كان عليهم أن يتفرّقوا كلٌّ خلف لُغته الخاصة، وأفكاره، واقتناعاته التي جعلَت لكلٍّ مكاناً، فبدَلاً من أن المكان كان لمجموعةٍ تقترب من بعضها، لا شعورياً قدر المستطاع، أصبح المكان لأشخاصٍ يبتعدون عن بعضهم قدر المستطاع، ولكن بشكل واعٍ ومُدرك أن التماهي لن يؤدي إلى خصوصية لأي منهم.. فكان الإفتراق الذي حرّر الجميع من الجميع ورسمَ طريق كل واحد على حِدة.
في الليل/في الحَلَك العظيم
وعند تشابُك الأحياء بالموتى
وولْوَلة الرياحِ
دفَنتُ أُمّي
وأهَلْتُ آخرَ حفنةٍ فوق التراب منَ التراب
وقلتُ: ها إني أعودُ لَعَلّني أجِدُ الجميلةَ
تستريحُ على سرير جمالِها
في البيتِ حيثُ تَمُدُّ نحوي
كفّها البيضاءَ
تسألني معاتبةً
لماذا غِبتَ يا وَلَدي؟
من هنا القول إن محمد علي شمس الدين كان نسيج نفْسه. وسّع دائرته الخاصة بأدواته الشعرية الخاصة، وحاول القفز أبعد مما كان يتوقّع بعض المراقبين الذين كانوا يتابعون تجربة شُعراء الجنوب التي أصبحت تجارب متنوعة ومتعدّدة ما أفسح في المجال لأن يتطور بعضهم أكثر من بعضهم الآخر، كلّ حسب المستوى الذي كان ينهَدُ إليه ويتمناه.. وهنا قوة محمد علي شمس الدين الذي لا يبدو أنه كان يعاني من لُغته الشعرية وأسلوبه وأفكاره، في حين كان هناك بين شُعراء الجنوب من شرّقَ وغرّبَ، ولفتَتْهُ محاولات شُعراء من لبنان والعالَم العربي، فراح يستلهمها بطريقة أو أخرى، فلم يوفّق في «السير» برِكابها لأنها دخيلة عليه فأصيب بأزمة الغراب الذي قرر تقليد مشية الحجل، ولما حاول وحاول دون فائدة، نسي مشيَتُه الأساسية، وصرَف وقتاً جيداً ليستعيد لهُ، ما لَهُ!
وكانت لدى شمس الدين جرأة مفقودة عند كثير من شُعراء التفعيلة عموماً في لبنان والعالَم العربي. فشاعر التفعيلة غالباً بل غالباً جداً ما يطَلّق الموزون المقفّى بالثلاثة، ويعتبر أن التفعيلة حرّرته من قيود الوزن (العروضي المعروف) والقافية، وفرشَت الطريق أمامه عبر التفعيلة الوحيدة ليقول ما يريد متخفّفاً من الأَحمال الأُخرى، أما محمد علي شمس الدين فلم يخلُ ديوان له من القصيدة الكلاسيكية. كأنه كان يمارس حرية خاصة في كتابتها فيبُثّ فيها «صناعته» الشخصية المتفلّتة من المعاني المألوفة للكلمات، كعادته، ليؤلّف حالة خاصة به ترصدُها كقارئ فتفاجئك بتركيبات أخرى لم تكن تتوقعها. شمس الدين كان صيّاداً ماهراً جدّاً في جذب المعنى العُلوي إلى أوراقه، وفي سحب المعنى الأرضي إلى فضاء يبتكره، ولم أقرأ له قصيدة من الشّعر العمودي إلّا وكانت تطغى فيها المفاجآت، تماما كقصائد التفعيلة. وإذا كان ملتزماً في الكلاسيكية أصولَها مع الحرص على إرسال شيفرات جمالية جديدة، كان في التفعيلة قائد أوركسترا حقيقياً. فصحيح أن التفعيلة الواحدة في القصيدة الواحدة، حين تتكرر، وهي حُكماً ستتكرر، قد تتعَب أو تُتعب الشاعر تبعاً لأُذْنه الموسيقية وطول أناته أو قِصَرها، أمّا عند محمد علي شمس الدين فتتحول إلى سيمفونية روحانية تُحِسّ بها وبمفاعيلها وأنغامها في شكل يبعد «روتين» التفعيلة، ويُدخِلُك عالَماً موسيقياً شِعرياً متميّزاً. فوراء أصداء الكلمات والأفكار والصوَر خلفيةٌ من الكلمات والأفكار والصّوَر تتلاحق وتفتح الطريق أمام المقاطع الجديدة في القصيدة الواحدة فكأنما هناك هارموني نوتات تتوزّع على ميلودي تخطو الخطوة الأولى فتندفع خلفها صاحباتها في انسجام جميل، يترك انطباعاً بأن شمس الدين يفعل هذا الفعل متسلّحاً بعلْم إيقاعي/ موسيقي كامن خلف علْمه بالإيقاع العروضي الشائع.
أفتح في جسدي بابا يفضي للبحر
أفتح في البحر طريقاً لا يرجعني
أفتح في بيتي حانة أقداري
أفتح نحو السرطان مداري
أفتح في طيب شمساً سوداء
أفتح خمس مدائن في الصحراء
أفتح نحو سمرقند النايات
أفتح باباً مجهولاً خلف الأبواب
افتح في الكوفة باب المحراب
أفتح في المحراب طريقاً
يصعد بي نحو الجنة
أحفر في الجنة سرداباً
يهبط بي نحو النار
احفر في النار طريقاً يدفعني نحو الأنثى
أفتح في جسد الأنثى باباً يفضي للملكوت
أفتح في ملكوت الله الواحد
باباً للتكرار
هناك خلاف بين الشعراء عموماً حول سؤال هل هناك كلمة شِعرية وأُخرى غير شعرية، وشمس الدين لشدّة تأنّقه في العبارة كان يؤمن بأن هناك كلمات شعرية وأُخرى غير شعرية، وهذا جَليٌّ في قصائده في حدود عالية، إذ من الصعب الوقوع فيها على كلمات مؤذية أو جارحة أو ثقيلة الوطأة على الأذُن. كان، إلى مدى كبير، يحمل دائماً مقصّاً يشذّب به العبارة وينقّيها ويطرح اليابس منها، كالمزارع الذي يعرف تماماً ما يفيد الزرع وما يضرّهُ. وهذه الأناقة في الجملة كان شاطراً في نقلِها الى القصيدة ككل، فكأن قصيدته تسبح في نهر نظيف، تغتسل، وتتشمس، وتأتي إلى الديوان زاهية حتى ولو كانت مضرّجة، وفَرِحة ولو كان فرحُها بكاء، ويستقبلُها قلبك والعقل بتأنٍّ، فمحمد علي كان دائمَ السعي إلى أن تتجمّل قصيدته بما تستحق من الرهافة والشفافية لا بإبَر غموض أصبحت في أيّامنا عمَلاً ثابتاً للكثير من الشعراء.
يقول ميشال فوكو «إن القارئ إذا لم يكن رُبع النص الذي بين يديه (شِعراً ونثراً، أدباً وعلْماً) غامضاً من القراءة الأولى، لن يحترمه». كأن هذا هو ميزان محمد علي شمس الدين في الكتابة الشّعرية سَواء عرف بفلسفة فوكو أم لا. ثمة غموض شفّاف، يلامس الذائقة، يحركها، من القراءة الأولى لقصائد شمس الدين، ويدفعك بحب إلى القراءة الثانية. والغموض الشّعري لا يلازم قصائده كأنه أصلٌ من أصولها، بل كحالةٍ محيِّرة تحضّ القارئ على فكّ رموزها من دون «إزعاجه» من الشاعر بادّعاء «المعرفة الشعرية» أكثر منه. هناك احترام للقارئ عند محمد علي شمس الدين، ولستَ لتشعرَ أبداً أنه ينافسُه أو متشاوفٌ عليه أو يناصبُه العداء. شيء ما يشبه الرفقة، يشبه الصحبة، يشبه خيطاً تواصليّاً معلّقاً بينهما. ومتابعة شِعر محمد علي شمس الدين من بدايته إلى آخر حرف كتبهُ في حياته تُقنعكَ بأنّ ما بين الشاعر والقارئ متين وصلب ومؤثّر وليس لقاء عابراً وفوق السطوح.
والقراءة الثانية لقصائد شمس الدين لا تقلّ إمتاعاً عن الأولى لأنها تكملة لها لا مقطوعة عنها، ولأنها تنبّهُك إلى «الأماكن» التي كنتَ فيها مستعجلاً عليه وعلى نفسك، فلم تتداركها في الأولى.. وبهذا تكون القراءة الثانية قد جمعَت بين يديك القصيدة أو الديوان على محبة وأُنس.
وإذا كان لي أن أُنَغّص على بعضهم ممّن يوافقُني في ما كتبتُ عن شِعر وشاعرية محمد علي شمس الدين في بحثي هذا، أنّ عنده معضلة هي أحياناً «مجانية» طُول القصيدة التي لا تحتمل طُولاً. ثمة موضوعات أو حالات شعرية معينة تصيب الشاعر عامةً في سياق تفكيره فيرحل خلفها، يتسقّطُها مع المطر والهواء وحركة الأنفاس، لكنه مدعوّ إلى إدراكها بحذافيرها فلا يُكَبّرُها رغماً عنها ويُثقلها بدلالات ليست من قماشتها، وبإيحاءات ليست بحساسيتها، عشوائياً أو بالاسترسال النثري، إذا كان ذلك ممكِناً. تشعر أحياناً أن شمس الدين تعِب من هذه القصيدة أو تلك (أشدّد: بعضها) لكنه لا «يكسر خاطرها» بالتوقف. ونتيجةُ ذلك التعبِ تبدو جليةً في بعض قصائده. كأنما تروقُه فكرةٌ ويَروقه مفتاحُ تعبيرٍ عنها، فيبدأ به فقراته الشعرية التي تسير طبيعياً وصعوداً ثم تتلجلجُ ثم تصمدُ ثمّ تتلجلَجُ، ولا تنتهي إلّا بعدما تتشقّق الفكرة وتَنوء، في وقت يظن كاتبها أنها تتسع وتنبسط وتتكاملُ، والواقعُ غير ذلك تماماً. وليس صعباً على المُتأنّي في تَفلِيَة القصيدة من الانتباه لذلك. أُوضِحُ فكرتي: حين يعثر موسيقي «حرّيف» على جُملة لحنية متميّزة تعجبه وتُعجبُ من يسمعُه، يحاذر التلاعب بجمالها وبنوتاتها لتطويلها ومحاولة إعطائها نفَساً أوبرالياً معتقداً بتلاعبه أن بهائها سيتمدد ورونقَها سيمشي معه.. وفي النهاية «ينكسِفُ» قمَرُ الجُملة. هكذا بعض قصائد شمس الدين، وهذا رافقَهُ طوال حياته الشعرية، ومثالي على ذلك أنّ مَقاطع اخترتُها كمُعجَب بها، في هذا البحث، كانت إمّا نهاية مَقاطع أو بداية مَقاطع. ولولا ذلك لما سمحتُ لنفسي باقتطاعها!
إنهم هكذا رحلوا
ثم عادوا
عى متن قوس النخيل
ليس للخبز لكنما للرحيل..
كأن المنافي إقامتهم
في الزمان البخيل…
على أن النزعة «الصوفية» هذه وأقول بعبارة أدقّ، الحالة الإيمانية التي تجسّدت في شِعره في سنواته الأخيرة لم تكن طارئة أو مفتعلة كما هي الحال عند بعض «المتصوّفين» التركيبيّين، فقد وصل في إيمانه بالله حدّ القول «لقد وجدتُه في كل شيء». منطق الحلولية، حلول الله في كل الكائنات والمخلوقات قديم، وشمس الدين كان يعتبره جزءاً من كيانه البشري. حتى على صعيد الفرائض الدينية كان محمد علي مؤمناً وموقناً بأن كل شيء مرهون بقدرة الله ونظرته. وقد انعكس هذا في شِعره بطريقة «ما ورائية»، أي أن ما وراء القصيدة كان يقول أكثر مما تقول القصيدة في الإيمانيّات. فما الذي أوصلَ محمد علي شمس الدين إلى هنا؟ يقول «أنا أوصلتُ نفسي إلى هنا. حصل كل شيء بسَعْيٍ مني». قرأ المتصوّفةَ العرب باكراً جداً في حياته، وأحبّهم وتأثّر بهم، لكنّ «صوفيته» كانت «شيئاً آخر» كما يُعرّف، وكما أوحَت دواوينه الأخيرة، التي كان فيها الله حاضراً وقادراً وأباً وجَداً عطوفاً، ولو لم يُسَمِّه. ربما كان يخشى التسمية أحيانا فيلتفّ عليها ليكون المنادَى أحَداً آخر. لم يدّعِ ما ادّعاه شُعراء «تصوّف» كثُر سبقوه، بل جعلَه إيمانُه العميق وتسليمُه بمنطق الدنيا والآخرة يتواضع أكثر فأكثر في معرفة الله. بات أرَقّ، بات أعذب، عندما بات قاب قوسين أو أدنى من الموت. الموت الذي تكلّم عنه كثيراً، وأخبره بحالِه وأفكاره قبل أن يأتيَه. وحين أتاهُ كانت قصيدته قد اكتملت. اكتملَت بالله، ولم يَعد لدى محمد علي شمس الدين ما يربطهُ بحياة أُولى يقال إن الحياة الثانية أجمل منها!
عبد الغني طليس – اللواء