ألقت الحرب الدائرة في جنوب لبنان منذ تسعة أشهر وأسبوعين بثقلها على مختلف القطاعات الإنتاجية، الزراعية والصناعية والتجارية والسياحية التي تشكل مصدر معايش الجنوبيين، فأصابت حيزاً كبيراً منها بالدمار المباشر أو بشلل تشغيلي غير مباشر، مما أدى إلى خسائر جسيمة وضياع المواسم والغلال الاقتصادية وتقهقر الإنتاج العام، مما انعكس سلباً على مختلف القطاعات الرديفة أو التي تدور في فلكها.
هكذا كانت حال القطاع السياحي في جنوب لبنان، الذي يشمل مؤسسات سياحية ومطاعم واستراحات ومتنزهات بحرية ونهرية وفي الداخل الجبلي، والتي تشغل آلاف الأيدي العاملة من لبنانية وسورية وتشكل حركة إنتاج موسمية ذات مفاعيل سنوية، وتدر على هذه المؤسسات والبيئة التي تحوطها أو ترعاها مبالغ جيدة تعزز الحركة الاقتصادية العامة للجنوبيين وتدعمها، لكن الحرب أصابت هذا القطاع في الصميم وسط إصرار المقيمين والمعنيين في المناطق الآمنة نوعاً ما على إطلاقه ودفعه نحو الأمام وتشريع أبوابه وساحاته.
إصرار على تفعيل السياحة
وعلى رغم أجواء الحرب التي تتردد أصداؤها ودخان غاراتها وقذائفها إلى مدينة صور، أصرت البلدية على نصب الخيام البحرية التي تكون الشاطئ الشعبي ويلجأ إليه سنوياً عشرات الألوف من الرواد القادمين من مختلف المناطق الجنوبية واللبنانية. ومع ذلك وصفت حركته السياحية بالبطيئة والمتعثرة، إذ اقتصر معظم قاصديه على أبناء المدينة والجوار على رغم تخفيض الأرباح وأجرة مواقف السيارات، ويعزو مديرو هذه الخيام التي تشبه المطاعم الصغيرة الأمر إلى تمنع السياح والزوار من خارج المنطقة عن القدوم إليها بسبب القصف والتهديدات.
من ناحية أخرى دمرت الغارات التي نفذتها الطائرات الحربية الإسرائيلية عدداً من المؤسسات والمباني السياحية وسوتها بالأرض، خصوصاً في بلدة مارون الراس جارة مدينة بنت جبيل، وكذلك في محيط قلعة الشقيف القريبة من مدينة النبطية. أما باقي المؤسسات والتي تنتشر بالعشرات بين مناطق حاصبيا ومرجعيون وبنت جبيل والناقورة الساحلية فأقفلت بصورة تامة نظراً إلى نزوح معظم أهالي المنطقة إلى خارجها، وباتت بعض البلدات التي تقع على خط المواجهة الأمامي خالية تماماً من أهلها وناسها، مما عطل الحياة فيها.
وعلى خط نهر الليطاني الممتد من قضاء مرجعيون إلى جوار مدينة صور البحرية عند مصب القاسمية فأقفلت معظم المؤسسات السياحية الكبيرة المنتشرة على ضفتيه والتي تتسع كل واحدة منها إلى أكثر من 400 و500 كرسي، بسبب وقوع بعضها في مناطق خطر مباشرة أو قريبة، أو لتأثرها بالوضع القائم وسط انقطاع حركة المصطافين والسياح التي تفد من خارج المنطقة وتشكل عنصراً رئيساً في تشغيلها، مع العلم أن بعض المؤسسات أصر أصحابها على تشغيلها معتمدين على رواد الجوار والمغتربين من أبناء المنطقة الذين قدموا إلى مناطقهم الجنوبية لقضاء عطلة الصيف بين أهاليهم.
سياحة صور دون 50 في المئة
ويفيد نائب رئيس بلدية صور صلاح صبراوي رداً على سؤالنا حول انطلاقة الموسم السياحي في صور وإن كانت ثمة معوقات، فيقول “الموسم السياحي في المدينة صور هذا العام هو أدنى من النصف مقارنة مع عام 2023، فالمطاعم على الكورنيش البحري فتحت أبوابها وتستقبل الرواد، لكن حركتها بطيئة وأدنى من الأوقات العادية، أما حركة الفنادق فهي سيئة جداً، إذ لا سياح أو رواد من خارج المنطقة، ويمكن الجزم أن الموسم السياحي متراجع إلى أدنى من 50 في المئة مقارنة مع السنوات الماضية، وكله بسبب الحرب”.
وعن حركة الخيام البحرية على شاطئ صور التي تنصبها وتؤجرها البلدية وترعاها في كل عام، يقول “كان لدينا إصرار على نصبها وتشغيلها انطلاقاً من إرادتنا أن تستمر الحياة طبيعية في عاصمة القضاء صور، وأجرينا بعض التخفيضات تشجيعياً لمستأجريها، لكنها تعمل اليوم 50 في المئة، ومرد ذلك إلى أن الحرب تقع على مقربة من المدينة، وتدور حولنا، خصوصاً في الناقورة وجوارها”. ويضيف “نصبنا 49 خيمة، وهو العدد الإجمالي السنوي، وكان الإقبال عليها سابقاً في يوم الأحد من كل أسبوع ما بين 3500 و4 آلاف سيارة، لكن اليوم لو جمعنا أيام الأسبوع كلها فبالكاد يصل الرقم الإجمالي إلى حصيلة يوم واحد في السابق، إذ إن حركتنا السياحية هذا الموسم هي حركة داخلية تعتمد على أبناء المدينة والجوار، أما من كانوا يأتون إلينا من بيروت وجبيل والبترون والنبطية وصيدا فلا أثر لهم هذا الموسم، بسبب الخوف وهم معذورون بذلك”.
ويشير صبراوي إلى أن حركة السياحة التاريخية والتراثية “معدومة هذه السنة في مدينة صور، بينما كانت هناك إيرادات كبيرة جداً تتشكل من زيارة المواقع الأثرية الفينيقية والرومانية في المدينة”. أما قطاع المراكب السياحية في مدينة صور التي كانت تنطلق من مينائها البحري نحو مناطق الشمال فالزهراني وصيدا أو باتجاه الناقورة فإنها تعد اليوم من أخطر المناطق السياحية بسبب تعرضها لقصف وغارات شبه يومية من قبل الطائرات الإسرائيلية، وتشهد إقبالاً خفيفاً، خصوصاً في ظل توقف الرحلات المدرسية أو الكشفية أو المشكلة من جمعيات وأندية مختلفة إلى مدينة صور بسبب الحرب الدائرة.
ويعد صبراوي أن “هذا التقهقر السياحي يطاول مختلف قطاعاته التي كانت تحيي صور طوال أيام السنة وتجعلها مدينة سياحية بامتياز، وتشكل لها مردوداً مالياً يستفيد منه ليس أبناء المدينة التاريخية فحسب، بل كذلك أبناء المنطقة المجاورة لما تربطهم بها من علاقات تجارية واقتصادية واجتماعية وإنسانية”.
سياحة ينعشها المغتربون
يلفت مدير مكتب وزارة السياحة في محافظة النبطية زاهر شعيتاني إلى أن مناطق الجنوب الحدودية لا يوجد فيها أي نشاط سياحي وأقفلت المؤسسات السياحية بأكملها “لكن إن حكينا عن صور والنبطية فمؤسساتها لم تتأثر كثيراً بالوضع الأمني، بل بصورة جزئية وحققت توازناً بما كانت عليه في عز الأزمة الممتدة تسعة أشهر، وما أنعشها بعد حضور المغتربين، إذ عاد كثر منهم إلى بلدات ومدن الجنوب وخلقوا نوعاً من التوازن”.
ويؤكد شعيتاني أن المؤسسات السياحية على ضفتي الليطاني “معظمها غير مرخصة، لكنها كانت تشكل حركة سياحية على امتداد الجنوب، وإنتاجية كبيرة لأصحابها ولأبناء الجنوب. والأسبوع الماضي أجرينا جولة وزرنا منتجعاً كبيراً قرب بلدة كفر صير وكانت نسبة الإشغال عندهم عالية على رغم أن الوضع الأمني بشع كثيراً”. ويشير إلى أن “بعض المطاعم والاستراحات التي تأثرت بالحرب الدائرة يشتغل اليوم على تأمين وإعداد وجبات طعام للنازحين بتكليف من جهات اجتماعية وخدماتية، وهي تعوض بذلك بعضاً من خسائرها في فقدان الموسم السياحي لهذا العام، طبعاً بما لا يحصل الكلف، ومنها الاستراحة القريبة من قلعة الشقيف التي تضررت جداً بسبب الحرب والقصف المباشر، إذ تعرضت لغارة في السادس من أبريل (نيسان) الماضي وقدرت خسائرها المباشرة بـ120 ألف دولار. أما خسائرها غير المباشرة فهي أن هذه المؤسسة كانت تقيم في الموسم الصيفي نحو 110 مناسبات بين أفراح وزواج وخطوبة وهذا كله توقف ولم يحصل هذه السنة”.
قلعة الشقيف بلا زوار
على رغم بعد قلعة الشقيف عن الحدود وخط المواجهة الأول، وهي أقرب إلى مدينة النبطية، فإنها تأثرت جداً بترددات الحرب وانقطع الزوار عنها وتوقفت الحركة السياحية حولها، ومرد ذلك، بحسب شعيتاني “إلى أن قلعة الشقيف ذات موقع استراتيجي يشرف على مختلف المناطق الجنوبية، ولها رمزيتها التاريخية، فضلاً عن أنها كانت لسنوات طوال تحت سيطرة الإسرائيليين ويتخوف كثر من أبناء المنطقة والجوار من أن تتعرض للقصف والاعتداءات كما حصل منذ نحو ثلاثة أشهر، وكذلك من الزوار والسائحين الذين كانوا يفدون إليها من خارج المنطقة، ومن الطبيعي أن ينعكس الأمر على جوارها من مؤسسات سياحية وغيرها”.
لا ينفي مدير مكتب وزارة السياحة في النبطية تأثر الحركة السياحية في المدينة، وكذلك في صور “لكن هناك نسبة من الإشغال لا بأس بها، اعتماداً على وجود المغتربين الذين حضروا بأعداد كبيرة. وما أسهم في انتعاش مدينة صور نوعاً ما هو وجود نسبة عالية من النازحين فيها، وكذلك نسبة الأمان التي تخيم عليها، وبعضها يعود إلى انتشار قوات الطوارئ (يونيفيل) فيها وحولها، مع العلم أن بعض الخروق الأمنية حصلت عند مداخلها بسبب تعرض أكثر من سيارة لاستهدافات الطائرات المسيرة، ومنها غارة قريبة من محلة البص عند المدخل الرئيس للمدينة”.
من سيعوض الخسائر السياحية؟
وعن وجود توجه لدى وزارة السياحة اللبنانية لتعويض المؤسسات المتضررة بصورة مباشرة أو غير مباشرة بالحرب الدائرة، قال زاهر شعيتاني إنه “على مستوى الوزارة لم يناقش أي أمر لجهة التعويض على المؤسسات السياحية المتضررة بسبب الحرب، ربما يكون هذا الأمر من تخصص مجلس الجنوب لاحقاً، إذ يعد إحصاء بالتعاون مع البلديات والمحافظين ولجنة انبثقت من المؤسسات التي تضررت بسبب الحرب أو على مستوى الإشغال، لكن الإدارات العامة جميعها تعاني أزمة كبيرة جداً ووصلت في بعض الأحيان إلى فقدانها إلى الأوراق والقرطاسيات”.
ويلقي شعيتاني “هذا التفصيل في عهدة رئاسة مجلس الوزراء وإذا كان سيتخذ قراراً بالتعويض على المؤسسات السياحية من خلال مجلس الجنوب، لكن نحن على مستوى وزارة السياحة ليس لدينا أية معلومة عن هذا الموضوع”.
دمار في مارون الراس
إلى ما تعرض له محيط قلعة الشقيف من غارات إسرائيلية، يؤكد زاهر شعيتاني أن “المؤسسات السياحية في مارون الراس هدمت بالكامل وسويت بالأرض بسبب الغارات الإسرائيلية المتكررة عليها، ولم تبق مؤسسة واحدة منها. وأحيط وزير السياحة علماً بهذا الأمر. وهناك حيز كبير من المؤسسات السياحية المنتشرة على طول الخط الممتد من أعالي شبعا وكفرشوبا وحتى الساحل اللبناني تضررت بصورة مباشرة أو غير مباشرة وخسائرها فادحة، لكن لا يوجد إحصاء دقيق في هذا الشأن ولم نجد من يعطينا أية معلومات سوى أصحاب بعض المؤسسات الذين أبلغوا عما حصل لمؤسساتهم وزودونا الصور وبعض الملفات”.
جزين وعنصر الأمان
وعن تراجع حجم الإشغال السياحي في منطقتي جزين وإقليم التفاح يقول مدير مكتب وزارة السياحة في النبطية، “إن تناولنا المنطقة التي تقع شمال النبطية، فهي لم تتأثر بالصورة التي تأثرت بها منطقتا جنوب وشرق النبطية الممتدتان نحو المنطقة الحدودية، أي جنوب نهر الليطاني. والسياحة بتعريفها هي الانتقال من مكان إلى مكان بهدف الترفيه عن النفس، وهذا يحتاج إلى ثلاثة عناصر (الوقت والمال والأمان). فعندما ترتبط هذه العناصر الثلاثة تكتمل العملية السياحية”. ويضيف “ما يحصل في جزين وإقليم التفاح أن العنصر الثالث وهو الأمان غير محقق أو متوافر، خصوصاً بعد تعرض أطراف جزين والإقليم لعديد من الغارات، وهذا ينعكس على جزين، وكذلك على شرق صيدا وإقليم التفاح، والكلام هنا ليس على انهيار الموسم، بل على تأثر الحركة السياحية بأجواء الحرب. يمكن القول إن الضغط السياحي تحول نحو مناطق جبيل وكسروان والشمال بسبب أجواء الحرب والتهديدات في الجنوب، وهذا أمر طبيعي”.
على مجرى الليطاني
فتحت مروة “أم شادي” الاستراحة الخاصة بعائلتها على مجرى نهر الليطاني في جوار بلدتها الزرارية (الزهراني) “فقط منذ أسبوع، إذ لم أكن أنوي فتحها بسبب الوضع القائم، لكن عدت وقررت فتحها بما أنني أسكن هنا، ولا ضير من ذلك، على أمل أن يأتي إلينا بعض الزوار”.
وتؤكد مروة “لا إقبال سياحياً، والرواد قلائل حتى من أبناء المنطقة والجوار، ربما لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة كل يومين أو ثلاثة. وأعيد التأكيد أنه لولا قرب الاستراحة من السكن لكنت أقفلتها. في السابق كانت الاستراحة والأمكنة لا تتسع، وخصوصاً أيام الجمعة والسبت والأحد والإثنين، ومن خارج المنطقة، حالياً نكاد لا نستقبل أكثر من خمس طاولات طوال الأسبوع”.
أما علي سلامة، وهو مدير استراحة كبيرة على مجرى الليطاني في جوار بلدة قاعقعية الجسر (النبطية) فيؤكد “أننا وأصحاب أكبر خمسة متنزهات هنا لم نفتح هذا الموسم بسبب الحرب، ومن فتح فهم من أصحاب المطارح الشعبية والمؤسسات العائلية الصغيرة، إذ يديرونها ويلبون حاجة الزبائن بأنفسهم من دون كلف موظفين وأجور عمال، ولا يتجاوز حجم إشغالهم الطاولتين أو ثلاث طاولات في اليوم الواحد، أو في الأسبوع الواحد، وضيوفهم من أبناء المنطقة والجوار، بعد امتناع السياح عن القدوم من بعيد، من صيدا والجبل وبيروت، فلا أحد يقصد المنطقة من خارجها أو يتجرأ على الوصول”.
ويشير سلامة إلى أن “الناس خائفة وغير متحمسة للاستجمام، وباتت نفسياتها غير مرتاحة كي تتنزه أو تقصد المطاعم والمتنزهات، خصوصاً على خط نهر الليطاني الذي يفصل بين شماله الواقع تحت تأثير الحرب، وجنوبه الواقع في قلب الحرب، ناهيك بالأسباب الاقتصادية بعد شلل القطاعات الزراعية والصناعية والتجارية والإنتاجية، وكل من يسعى إلى الترفيه يحتاج إلى راحة البال وإلى المال، وهما غير متوافرين في الوقت الحالي، بل منذ تسعة أشهر ونيف”.
ويتحدث سلامة عن سبب آخر يسهم في تردي العملية السياحية “ألا وهو عملية اصطياد السيارات والدراجات المتنقلة على الطرقات من قبل المسيرات الإسرائيلية، خصوصاً أن بعض الطرقات إلى المتنزهات والاستراحات هي طرقات جبلية ووعرة وتجعل من المتنقلين عليها أهدافاً محتملة عند الإسرائيليين الذي لا يميزون في كثير من الأحيان، ويستهدفون المدنيين، وهذا ما حصل منذ يومين، إذ استهدفت إحدى الغارات عاملين سوريين عائدين من العمل على دراجة نارية قرب الخردلي عند ضفاف الليطاني، وثلاثة أطفال سوريين في مزرعة في قرية أم التوت قرب مروحين”.
بين مرجعيون وإبل السقي ومدخل حاصبيا على نهر الحاصباني أوقفت مؤسسات سياحية ومسابح كبيرة أشغالها وألغت موسمها الصيفي تأثراً بأجواء الحرب والنزوح الكبير الذي تشهده المنطقة وغياب السياح والزوار عنها. وسببت الحرب خسائر كبيرة وجسيمة غير مباشرة لأصحابها بعد أن كانت هذه المنطقة تعج بقاصديها من مختلف المناطق اللبنانية، لا سيما من مناطق البقاع الشرقية والغربية والوسطى.
كامل جابر-اندبندنت